التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ
٨٧
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ
٨٨
-طه

التحرير والتنوير

{ قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا }

وقعت جملة { قَالُوا } غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جواباً عن كلام موسى ــــ عليه السلام ــــ. وضمير { قَالُوا } عائد إلى { القوم } وإنما القائل بعضهم، تصدّوا مجيبين عن القوم كلّهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم.

وقوله { بمَلْكنا } قرأه نافع، وعاصم، وأبو جعفر بفتح الميم. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر الميم. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بضم الميم. وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة، ومعناها: بإرادتنا واختيارنا، أي لإخلاف موعدك، أي ما تجرّأنا ولكن غرّهم السامريّ وغلبهم دهماء القوم. وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم.

والاستداك راجع إلى ما أفاده نفيُ أن يكون إخلافهم العهدَ عن قصد للضلال. والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حُصول المقصود من التنصّل من تبعة نكث العهد.

ومحل الاستدراك هو قوله { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } وما قبله تمهيد له، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غُلبوا على رأيهم بتضليل السامريّ. فأُدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما مُوّه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى.

وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب { حُمّلنا } بضمّ الحاء وتشديد الميم مكسورة، أي حَمّلنَا منْ حَمّلَنا، أو حَمّلْنا أنفسنا.

وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، وأبو عمرو، والكسائي، ورَوحٌ عن يعقوب بفتح الحاء وفتح الميم مخففة .

والأوزار: الأثقال. والزينة: الحلي والمصوغ. وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كلّ واحد من جاره القبطي حَلياً فضةً وذهباً وأثاثاً، كما في الإصحاح 12 من سفر الخروج. والمعنى: أنهم خشُوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون.

والقذف: الإلقاء. وأُريد به هنا الإلقاء في نار السامريّ للصوغ، كما يومىء إليه الإصحاح 32 من سفر الخروج. فهذا حكاية جوابهم لموسى - عليه السلام - مجملاً مختصراً شأنَ المعتذر بعذر وَاهٍ أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام.

ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادراً من قائل الكلام المفرّع عليه. والمعنى: فمثلَ قذفنا زينةَ القوم، أي في النّار، ألقى السامريّ شيئاً من زينة القوم فأخرج لهم عجلاً. والمقصود من هذا التشبيه التخلّصُ إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه.

وضميرا { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } وقوله: { فَقَالُوا } عائدان إلى غير المتكلمين. علّق المتكلمون الإخرَاجَ والقولَ بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعَوا دهماء القوم، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى. وعلى هذا درج جمهور المفسرين، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى، ويكون ضمير { فأخرج لهم } التفاتاً قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم، أي أخرجَه لمن رغِبوا في ذلك.

وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله، وهو اختيار أبي مسلم، فيكون اعتراضاً وإخباراً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللأمّة. وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا تَرِد للاستئناف على التحقيق، فتكون الفاء للتفريع تفريعَ أخبار على أخبار.

والمعنى: فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليَذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلاً جسداً. فإنّ فعل (ألقى) يحكي حالة مشبهة بحالة قَذفهم مصوغَ القبط. والقذف والإلقاء مترادفان، شبه أحدهما بالآخر.

والجسد: الجسم ذو الأعضاء سواء كان حياً أم لا؛ لقوله تعالى: { وألْقينا على كرسيه جسداً } [ص: 34]. قيل: هو شِق طفل ولدتْه إحدى نسائه كما ورد في الحديث. قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يَعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب. وفي سفر الخروج أنّه كان من ذهب.

والإخْراج: إظهار ما كان محجوباً. والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه.

والخُوار: صوت البقر. وكان الذي صنع لهم العجل عارفاً بصناعة الحِيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.

وصنع لهم السامريّ صنماً على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل «ايبيس»، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرَفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خواراً، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم { هذا إلهكم وإله موسى }، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة، فتوهموا أنّه أفضل من العجل (إيبيس). وإذ قد كانوا يثبتون إلهاً محجوباً عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته، فقالوا لموسى: { { أرنا الله جهرة } [النساء: 153]، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة. وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التّوراة غير ملائمة للنظر السليم.

وتفريع { فَنَسِى } يحتمل أن يكون تفريعاً على { فقالوا هذا إلهكم } تفريعَ علة على معلول، فالضمير عائد إلى السامريّ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي؛ أو تفريعَ معلول على علّة، أي قال ذلك، فكان قوله سبباً في نسيانه ما كان عليه من هَدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعدُ.

والنسيان: مستعمل في الإضاعة، كقوله تعالى: { { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها } [طه: 126] وقوله: { { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [الماعون: 5].

وعلى هذا يكون قوله { فَنَسِيَ } من الحكاية لا من المحكي، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله { أفلا يرون } [طه: 89] ويكون اعتراضاً. وجعله جمع من المفسرين عائداً إلى موسى، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه، أي غفل عنه، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.

والنسيان: يكون مستعملاً مجازاً في الغفلة.