التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٣٨
لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٣٩
بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٤٠
-الأنبياء

التحرير والتنوير

نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذِكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكماً، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى: { { ويقولون متى هذا الوعد } عطفاً على جملة { { سأريكم آياتي } [الأنبياء: 37]. وهذا معبّر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء وعناداً.

وذكر مقالتهم هذه هنا مناسب لاستبطاء المسلمين النصرْ. وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة { { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً } [الأنبياء: 36] فيجوز أن تكون معطوفة عليها.

وخاطبوا بضمير الجماعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين.

واستفهامُهم استعملوه في التهكم مجازاً مرسلاً بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين كانوا موقنين بعدم حصول الوعد.

والمراد بالوعد ما تَوعدهم به القرآن من نصرِ رسوله واستئصال معانديه. وإلى هذه الآية ونظيرها ينظرُ قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر حين وقف على القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً } [الأعراف: 44] أي ما وعدنا ربنا من النصر وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار.

وجملة { لو يعلم الذين كفروا } مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }. ماذا يكون جوابهم عن تهكمهم. وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره.

وجواب (لو) محذوف، تقديره: لمَا كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم، ونحو ذلك مما يحتمله المقام. وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى: { { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هُزؤاً } [الأنبياء: 36]. وحذْف جواب (لو) كثير في القرآن. ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب.

و (حينَ) هنا: اسم زمان منصوب على المفعولية لا على الظرفية، فهو من أسماء الزمان المتصرفة، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عَدوا تأخيره دليلاً على تكذيبه.

وجملة { لا يكفون } مضاف إليها (حينَ). وضمير { يكفون } فيه وجهان: أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائداً إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه: الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة [الأنفال: 50] { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق } فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذار بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لَقُوه يوم بدر.

وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس:

نُعرِّض للسيوف إذا التقيناوجوهاً لا تعرض لللطام

ولأن الأدبار يأنف الناسُ من ضربها لأن ضربها إهانة وخزي، ويسمى الكسع.

والوجه الثاني: أن يكون ضمير { يكُفُّون } عائداً إلى الذين كفروا، والكَفّ بمعنى الدّرْءِ والستر مجازاً بعلاقة اللزوم، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم. أي حين تحيط بهم النار مواجهَةً ومدابرَةً. وذِكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم.

وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميعُ من لدينا كُتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم { متى هذا الوعد } ولقوله تعالى { سأريكم آياتي } [الأنبياء: 37] كما تقدم.

وقوله تعالى: { ولا هم ينصرون } عطف على { لا يكفون } أي لا يكف عنهم نفح النار، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصراً ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب. وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصاً منها ولا يجدون نصيراً من أحلافهم.

و (بل) للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة، وهو أشدّ على النفوس لعدم التهيُّؤ له والتوطن عليه، كما قال كُثَيّر:

فقلت لها يا عز كل مصيبةإذا وطنت يوماً لها النفس ذلت

وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18].

وفاعل { تأتيهم } ضمير عائد إلى الوعد. وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى: { حين لا يكفون عن وجوههم النار } باعتبار الوقعة أو نحو ذلك، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة. وأمّا على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين لأن الحين في معنى الساعة.

والبغتة: المفاجأة، وهي حدوث شيء غير مترقب.

والبَهت: الغلب المفاجىء المعجز عن المدافعة، يقال: بَهتَهَ فبُهِتَ. قال تعالى في سورة [البقرة: 258] { فبهت الذي كفر } أي غُلب. وهو معنى التفريع في قوله تعالى: { فلا يستطيعون ردها } وقوله تعالى: { ولا هم ينظرون } أي لا تؤخر عنهم. وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أُنظِروا زمناً طويلاً لعلهم يقلعون عن ضلالهم.

وما أشدّ انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى: { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } في [الأنفال: 42]، وقال تعالى: { { ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [الأنفال: 44]. ولا شك في أن المستهزئين مثلَ أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف، كانوا ممن بَغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك.

وأما إذا أريد بضمير { تأتيهم }الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة بغتة. وأما أولئك المستهزئون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون.