التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
٦٨
قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
-الأنبياء

التحرير والتنوير

لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مَخلَصاً إلا بإهلاكه. وكذلك المبطل إذا قَرعَت باطلَه حجة فساده غضب على المحقّ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبتَه والتشفّي منه، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عجزوا عن المعارضة. واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعَاقب به وأفظعه.

والتحريق: مبالغة في الحرق، أي حرقاً متلفاً.

وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملِكهم، وهو (النمروذ)، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام. قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كُردي اسمه (هينون)، واستحسن القومُ ذلك، والذي أمر بالإحراق (نمروذ)، فالأمر في قولهم { حرقوه } مستعمل في المشاورة.

ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم، وأنهم دبّروه ليبغتوه به خشيةَ هروبه لقوله تعالى: { { وأرادوا به كيداً } [الأنبياء: 70].

ونمروذ هذا يقولون: إنه ابن (كوش) بن حَام بن نوح، ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن (كوش). فالصواب أن (نمروذ) من نسِل (كوش). ويحتمل أن تكون كلمة (نمروذ) لقباً لملك (الكلدان) وليست عَلَماً. والمقدر في التاريخ أن مَلك مدينة (أور) في زمن إبراهيم هو (ألغى بن أورخ) وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى: { { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } في [سورة البقرة: 258].

ونصر الآلهة بإتلاف عدوّها.

ومعنى { إن كنتم فاعلين } إن كنتم فاعلين النصر، وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم.

وجملة { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } مفصولة عن التي قبلها إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم { حرقوه } فأشبهت جمل المحاورة، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق. وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى، أي فألقَوْه في النار قلنا: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم إذ وَجّه إلى النار تعلّقَ الإرادة بسلب قوة الإحراق، وأن تكون برداً وسلاماً إن كان الكلام على الحقيقة، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقَى فيكِ بحَرّك.

وأما كونها سلاماً فهو حقيقة لا محالة، وذِكر { سلاماً } بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد، فعُقب ذكره بذكر السلام لذلك. وعن ابن عباس: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببَردها. وإنما ذكر { برداً } ثمّ أتبع بــــ { سلاماً } ولم يقتصر على { برداً } لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صيّر النار برداً.

و { على إبراهيم } يتنازعه { برداً وسلاماً }. وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له، ويجوز أن يتعلق بفعل الكون.