التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ
٤٦
-الحج

التحرير والتنوير

تفريع على جملة { { فكأين من قرية أهلكناها } [الحج: 45] وما بعدها.

والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائها، والتعجيب متعلّق بمن سافروا منهم ورأوا شيئاً من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه قوله تعالى: { أو آذان يسمعون بها }. فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض، ولكن جعل الاستفهام داخلاً على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جُعل كالعدم فكانَ التعجيب من انتفائه، فالكلام جارٍ على خلاف مقتضى الظاهر.

والفاء في { فتكون } سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير، أي لم يسيروا سيراً تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتاً وفي هذا المعنى قال المعرّي:

وقيل أفادَ بالأسفار مالاًفقلنا هل أفادَ بها فُؤادا

وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائدَ تزيد هِمتَه نفاذاً فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.

وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مُفيض الدم ــــ وهو مادة الحياة ــــ على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل، ولذلك قال: { يعقلون بها } وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال: { يعقلون بها } فأشار إلى أن القلوب هي العقل.

ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم.

وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ماعلمه المسافرون علماً سبيلُه سماع الأخبار.

وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك: { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.

فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت منهم آثارها فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وهذا كقوله تعالى: { { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } [البقرة: 171].

والفاء في جملة { فإنها لا تعمى الأبصار } تفريع على جواب النفي في قوله: { فتكون لهم قلوب يعقلون بها }، وفذلكة للكلام السابق، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم.

والضمير في قوله { فإنها } ضمير القصة والشأن، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعدَ الضمير، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب، أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات، والمدرِك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصمّ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل.

واستعير العَمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسّة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه.

والتعريف في { الأبصار }، و{ القلوب }، و{ الصدور } تعريفُ الجنس الشامل لقلوب المتحدّث عنهم وغيرهم، والجمْع فيها باعتبار أصحابها.

وحرف التوكيد في قوله: { فإنها لا تعمى الأبصار } لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه.

وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانُها بحرف التوكيد.

والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائيّ للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمىً، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه، فالقصر ترشيح للاستعارة.

ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبَداعة النظم.

و{ التي في الصدور } صفة لــ{ القلوب } تفيد توكيداً للفظ { القلوب }. فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى: { { ولا طائر يطير بجناحيه } [الأنعام: 38]. ووزان القيد في قوله: { يقولون بأفواههم } [آل عمران: 167] فهو لزيادة التقرير والتشخيص.

ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضاً بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدّة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيَّ» فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه.