التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٤٥
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ
٤٦
فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
٤٧
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ
٤٨
-المؤمنون

التحرير والتنوير

الآيات: المعجزات، وإضافتها إلى ضمير الجلالة للتنويه بها وتعظيمها. والسلطان المبين: الحجة الواضحة التي لقنها الله موسى فانتهضت على فرعون وملئه. والباء للملابسة، أي بعثناه ملابساً للمعجزات والحجة.

وملأ فرعون: أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة. وإنما جعل الإرسال إليهم دون بقية أمة القبط لأن دعوة موسى وأخيه إنما كانت خطابا لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمة لتحرير بني إسرائيل من استعبادهم إياهم قال تعالى: { { فاتِياه فَقُولا إنَّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم } [طه: 47]. ولم يرسلا بشريعة إلى القبط. وأما الدعوة إلى التوحيد فمقدمة لإثبات الرسالة لهم.

وعطف { فاستكبروا } بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء، فالسين والتاء للتوكيد، أي تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته أذناً صاغية.

وجملة { وكانوا قوماً عالين } معترضة بين فعل { استكبروا } وما تفرع عليه من قوله { فقالوا } في موضع الحال من فرعون وملئه، أي فاستكبروا بأن أعرضوا عن استجابة دعوة موسى وهارون وشأنهم الكبرياء والعلو، أي كان الكبر خلقهم وسجيتهم. وقد بينا عند قوله تعالى: { { لآياتٍ لقوم يعقلون } في سورة البقرة (164) أن إجراء وصف على لفظ (قوم) أو الإخبار بلفظ (قوم) متبوع باسم فاعل إنما يقصد منه تمكن ذلك الوصف من الموصوف بلفظ (قوم) أو تمكنه من أولئك القوم. فالمعنى هنا: أن استكبارهم على تلقي دعوة موسى وآياته وحجته إنما نشأ عن سجيتهم من الكبر وتطبعهم. فالعلو بمعنى التكبر والجبروت. وسيجيء بيانه عند قوله: { { إن فرعون علا في الأرض } في سورة القصص (4).

وبين ذلك بالتفريع بقوله: { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } فهو متفرّع على قوله { فاستكبروا }، أي استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون }. وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملإ لبعض، ولما كانوا قد تراوضوا عليه نسب إليهم جميعاً. وأما فرعون فكان مصغياً لرأيهم ومشورتهم وكان له قول آخر حكي في قوله تعالى: { { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إلٰه غيري } [القصص: 38] فإن فرعون كان معدوداً في درجة الآلهة لأنه وإن كان بشراً في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة.

والاستفهام في { أنؤمن } إنكاري، أي ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مبايناً للمرسل إليهم، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناساً غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي، ولا يقيمون وزناً لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت لأنها قرارة الإنسانيَّة. وهذه الشبهة هي سبب ضلال أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم.

واللام في قوله: { لبشرين } لتعدية فعل { نؤمن }. يقال للذي يصدّق المخبر فيما أخبر به: آمن له، فيعدى فعل (آمن) باللام على اعتبار أنه صدّق بالخبر لأجْل المخبر، أي لأجل ثقته في نفسه. فأصل هذه اللام لام العلة والأجْل. ومنه قوله تعالى: { { فآمن له لوط } [العنكبوت: 26] وقوله: { { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } [الدخان: 21]. وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول: آمنت بأن الله واحد. وبهذا ظهر الفرق بين قولك: آمنت بمحمد وقولك: آمنت لمحمد. فمعنى الأول: أنك صدقت شيئاً. ولذلك لا يقال: آمنت لله وإنما يقال: آمنت بالله. وتقول: آمنت بمحمد وآمنت لمحمد. ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به.

و{ مثلنا } وصف { لبشرين } وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغه موصوفه كما هنا. ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى: { { إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالُكم } [الأعراف: 194].

وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا: { وقومهما لنا عابدون }، أي وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا.

وقوله: { عابدون } جمع عابد، أي مطيع خاضع. وقد كانت بنو إسرائيل خَوَلاً للقبط وخدماً لهم قال تعالى: { { وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبَّدت بني إسرائيل } [الشعراء: 22].

وتفرع على قولهم التصميمُ على تكذيبهم إياهما المحكي بقوله { فكذبوهما }، أي أرسى أمرهم على أن كذبوهما، ثم فرّعَ على تكذيبهم أن كانوا من المهلكين إذ أهلكهم الله بالغرق، أي فانتظموا في سلك الأقوام الذين أهلكوا. وهذا أبلغ من أن يقال: فأهلكوا، كما مر بنا غير مرة.

والتعقيب هنا تعقيب عرفي لأن الإغراق لما نشأ عن التكذيب فالتكذيب مستمر إلى حين الإهلاك.

وفي هذا تعريض بتهديد قريش على تكذيبهم رسولهم صلى الله عليه وسلم لأن في قوله: { من المهلكين } إيماء إلى أن الإهلاك سنة الله في الذين يكذبون رسله.