التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩
-المؤمنون

التحرير والتنوير

ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها، والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقيَّة كقوله تعالى: { { حافظوا على الصلوات } [البقرة: 238] وتقدّم معنى الحفظ قريباً.

وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصاً على العموم.

وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله: { { الذين هم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون: 2] لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعاً للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمالُ الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات.

وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويهاً بها، ورداً للعجز على الصدر تحسيناً للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولاً لسماعها ووعيها فتتأسى بها.

والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره.

وقرأ الجمهور { على صلواتهم } بصيغة الجمع، وقرأه حمزة والكسائي وخلف { على صلاتهم } بالإفراد.

وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تُراض له النفس من أعمال القلب والجوارح.

فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى: { { ثم كان من الذين آمنوا } [البلد: 17] وقوله: { { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [النور: 39].

ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته.

وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غيرَ مستحضر خشوعاً لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبتُه ربَّه فامتثل واجتنب. فهذان من أعمال القلب.

وذكرت الإعراض عن اللغو، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عَنِ اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك. وفي الإعراض عن اللغو خُلُق للسمع أيضاً كما علمتَ.

وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح { { ومن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [التغابن: 16].

وذكرت حفظ الفرج، وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخُلقاً.

وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا.

وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء.

وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية بالوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقاً راسخاً.

وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة.

فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعلِ والترك في المهمات، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها.

روى النسائي: أن عائشة قيل لها: كيف كان خُلق رسول الله؟ قالت: كان خُلقه القُرآن. وقرأت: { { قد أفلح المؤمنون } [المؤمنون: 1] حتى انتهت إلى قوله: { والذين هم على صلواتهم يحافظون }. وقد كان خُلق أهل الجاهليَّة على العكس من هذا، فيما عدا حفظ العهد غالباً، قال تعالى: { { وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مُكاءً وتصديةً } [الأنفال: 35]، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين { { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } [القصص: 55]، وقال: { { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } [فصلت: 6، 7]، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهليَّة.