التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
٣٦
ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
٣٧
-النمل

التحرير والتنوير

أي فلما جاء الرسول الذي دل عليه قوله: { وإني مرسلة إليهم بهدية } [النمل: 35]، فالإرسال يقتضي رسولاً، والرسول لفظه مفرد ويصدق بالواحد والجماعة، كما تقدم في قصة موسى في سورة الشعراء. وأيضاً فإن هدايا الملوك يحملها رَكب، فيجوز أن يكون فاعل { جاء } الركبُ المعهود في إرسال هدايا أمثال الملوك.

وقد أبى سليمان قبول الهدية لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله: { وأتوني مسلمين } [النمل: 31] فتبيّن له قصدُها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بثّ سلطانه على مملكة سبأ.

والخطاب في { أتمدونن } لوفد الهدية لقصد تبليغه إلى الملكة لأن خطاب الرسل إنما يقصد به من أرسلهم فيما يرجع إلى الغرض المرسل فيه.

والاستفهام إنكاري لأن حال إرسال الهدية والسكوت عن الجواب يقتضي محاولة صرف سليمان عن طلب ما طلبه بما بذل له من المال، فيقتضي أنهم يحسبونه محتاجاً إلى مثل ذلك المال فيقتنع بما وجّه إليه.

ويظهر أن الهدية كانت ذهباً ومالاً.

وقرأ الجمهور: { أتمدونني } بنونين. وقرأه حمزة وخلف بنون واحدة مشدّدة بالإدغام. والفاء لتفريع الكلام الذي بعدها على الإنكار السابق، أي أنكرت عليكم ظنكم فرحي بما وجهتم إليّ لأنّ ما أعطاني الله خير مما أعطاكم، أي هو أفضل منه في صفات الأموال من نفاسة ووفرة.

وسَوق التعليل يشعر بأنه علم أن الملكة لا تعلم أن لدى سليمان من الأموال ما هو خير مما لديها، لأنه لو كان يظن أنها تعلم ذلك لما احتاج إلى التفريع.

وهذا من أسرار الفرق في الكلام البليغ بين الواو والفاء في هذه الجملة فلو قال: وما آتاني الله خير مما آتاكم، لكان مُشعراً بأنها تعلم ذلك لأن الواو تكون واو الحال.

و{ بل } للإضراب الانتقالي وهو انتقال من إنكاره عليهم إمداده بمال إلى رد ذلك المال وإرجاعه إليهم.

وإضافة { هديتكم } تشبيه؛ تحتمل أن تكون من إضافة الشيء إلى ما هو في معنى المفعول، أي بما تهدونه. ويجوز أن يكون شبيهة بالإضافة إلى ما هو في معنى المفعول، أي بما يُهدى إليكم. والخبر استعمل كناية عن رد الهدية للمهدي.

ومعنى: { تفرحون } يجوز أن يكون تُسرُّون، ويجوز أن يكون تفتخرون، أي أنتم تعظم عندكم تلك الهدية لا أنا، لأن الله أعطاني خيراً منها.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في «أنتم تَفرحون» لإفادة القصر، أي أنتم. وهو الكناية عن رد الهدية.

وتوعدهم وهددهم بأنه مرسل إليهم جيشاً لا قِبَل لهم بحربه. وضمائر جمع الذكور الغائب في قوله: { فلنأتينهم } و{ لنخرجنهم } عائدة إلى القوم، أي لنخرجن من نخرج من الأسرى.

وقوله: { فلنأتينهم بجنود } يحتمل أنه أراد غزو بلدها بنفسه، فتكون الباء للمصاحبة. ويحتمل أنه أراد إرسال جنود لغزوها فتكون الباء للتعدية كالتي في قوله تعالى: { { ذهب الله بنورهم } [البقرة: 17] أي أذهبه؛ فيكون المعنى: فلنؤتينهم جنوداً، أي نجعلها آتية إياهم.

والقِبَل: الطاقة. وأصله المقابلة فأطلق على الطاقة لأن الذي يُطيق شيئاً يثبت للقائه ويقابله. فإذا لم يُطقه تقهقر عن لقائه. ولعل أصل هذا الاستعمال ناظر إلى المقابلة في القتال.

والباء في { بها } للسببية، أي انتفى قِبلهم بسببها، أو تكون الباء للمصاحبة، أي انتفى قِبلهم المصاحب لها، أي للقدرة على لقائها.

وضمير { بها } للجنود وضمير { منها } للمدينة، وهي مأرب، أي يخرجهم أسرى ويأتي بهم إلى مدينته.

والصاغر: الذليل، اسم فاعل من صغر بضم الغين المستعمل بمعنى ذل ومصدره الصغار. والمراد: ذل الهزيمة والأسر.