التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٠
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ
٣١
ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٣٢
-القصص

التحرير والتنوير

{ فَلَمَّآ أَتَـٰهَا نُودِىَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِى ٱلأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّىۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ * ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ }.

تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل { أتاها } هنا و { جاءها } هناك [النمل: 8] و { إني أنا الله } هنا، و { إنه أنا الله } هناك [النمل: 9] بضمير عائد إلى الجلالة هنالك، وضمير الشأن هنا وهما متساويان في الموقع لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم. وقوله هنا{ رب العالمين } وقوله هنالك { العزيز الحكيم } [النمل: 9]. وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ.

والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل لأن وصف { رب العالمين } يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة.

و { أن ألق } هنا و { ألق عصاك } [النمل: 10]، و { اسلك } هنا { وأدخل } هناك [النمل: 12]. وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها، وإلا زيادة { من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة } وهذا واد في سفح الطور. وشاطئه: جانبه وضفته.

ووصف الشاطىء بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار يريدون هذا المعنى قال امرؤ القيس:

على قطن بالشيم أيمن صوبهوأيسره على الستار فيذبل

وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل، أي جهة مغرب الشمس من الطور. ألا ترى أنهم سموا اليمن يمناً لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شاماً لأنه على شآم المستقبل لبابها، أي على شماله، فاعتبروا استقبال الكعبة، وهذا هو الملائم لقوله الآتي { وما كنت بجانب الغربي } [القصص: 44].

وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } [ طه: 80] فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك.

وإن حمل على أنه تفضيل من اليُمن وهو البركة فهو كوصفه بــــ{ المقدس } في سورة [النازعات: 16] { إذ ناداه ربه بالوادِي المقدس طُوى } .

و{ البقعة } بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها. و{ المباركة } لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى. وقوله { من الشجرة } يجوز أن يتعلق بفعل { نُودِي } فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون { من } للابتداء، أي سمع كلاماً خارجاً من الشجرة. ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً نعتاً ثانياً للواد أو حالاً فتكون { من } اتصالية، أي متصلاً بالشجرة، أي عندها، أي البقعة التي تتصل بالشجرة.

والتعريف في { الشجرة } تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذ لم يتقدم ذكر الشجرة، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العُلَّيق (وهو من شجر العضاه) وقيل: هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضاً. وزيادة { أقبل } وهي تصريح بمضمون قوله { لا تخف } في سورة [النمل: 10] لأنه لما أدبر خوفاً من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازاً وكان هنا مساواة تفنناً في حكاية القصتين، وكذلك زيادة { إنك من الآمنين } هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد { ولا تخف }. وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد بــــ(إن) وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال: إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى { أن أكون من الجاهلين } في سورة [البقرة: 67].

وقوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى. وهي ألفاظ: جناح، ورهب، وحرف { من }. فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر. وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري. قال بعضهم: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً وإن قوله { من الرهب } متعلق بقوله { ولى مدبراً } على أن { من } حرف للتعليل، أي أدبر لسبب الخوف، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل { ولى } وبين { من الرهب }.

وقيل الجناح: اليد، ولا يحسن أن يكون مجازاً عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله { اسلُك يدك في جيبك } وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد. وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في «الكشاف» بعيد، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عُزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد. وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان. وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن. ولذا فالوجه أن قوله { واضمم إليك جناحك } تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطيران أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف. ويكون { من } هنا للبدلية، أي اسكن سكون الطائر بدلاً من أن تطير خوفاً. وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل: وأصله لأبي علي الفارسي. و{ الرهب } معروف أنه الخوف كقوله تعالى { يدعوننا رغباً ورهباً } [الأنبياء: 90].

والمعنى: انكفف عن التخوف من أمر الرسالة. وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده { قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون } [القصص: 33] فقوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } في معنى قوله تعالى { فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [القصص: 35].

وقرأ الجمهور { الرهب } بفتح الراء والهاء، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة.

{ فَذَانِكَ بُرْهَانَـٰنِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ فاسقين }.

تفريع على قوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } والإشارة إلى العصا وبياض اليد. والبرهان: الحجة القاطعة. و{ من } للابتداء، و{ إلى } للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم.

وجملة { إنهم كانوا قوماً فاسقين } تعليل لجملة { فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه } لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله { كانوا }. وقوله { قوماً } كما تقدم في قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة [البقرة: 164]. والفسق: الإشراك بالله.

وقرأ الجمهور { فذانك } بتخفيف النون من (ذانك) على الأصل في التثنية. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون { فذانك } وهي لغة تميم وقيس. وعلّلها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من (ذا) و(تا) المحذوفة لأجل صيغة التثنية. وفي «الكشاف»: أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال «فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك». وهذا أحسن.