التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٧٠
-القصص

التحرير والتنوير

عطف على { وربك يخلق ما يشاء ويختار } [ القصص: 68] أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقاداً وعملاً، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم، أي نفوسهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير { صدورهم } عائد إلى { ما } من قوله { يخلق ما يشاء } [القصص: 68] باعتبار معناها، أي ما تكنّ صدور المخلوقات وما يعلنون. وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم في { ما يشاء } [القصص: 68] فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد. وهذا منتهى الإيجاز.

وفي إحضار الجلالة بعنوان { وربك } إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم وتقدم { ما تُكِنُّ صدورهم وما يعلنون } آخر [النمل: 74].

{ وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.

عطف على جملة { وربك يخلق ما يشاء ويختار } [القصص: 68] الآية. والمقصود هو قوله { وله الحكم } وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه.

ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قوله { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } [القصص: 58] إلى هنا، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة. والمذكور بعنوان { ربك } [القصص: 69] هو المسمى الله اسماً جامعاً لجميع معاني الكمال. فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه. وقريب منه قوله { فذلكم الله ربكم الحق } [يونس: 32].

وقوله { لا إله إلا هو } خبر ثان عن ضمير الجلالة، وفي هذا الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو، فكان هذا إبطالاً للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقوله { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } [القصص: 64].

وأخبر عن اسم الجلالة خبراً ثانياً بقوله { له الحمد في الأولى والآخرة } وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا الله فلا تسمع أحداً من المشركين يقول: الحمد للعزى، مثلاً.

فاللام في { له } للملك، أي لا يملك الحمد غيره، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي.

وتعريف { الحمد } تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي له كل حمد.

و{ الأولى } هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة.

وأما الحمد في الآخرة فهو ما في قوله { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } [الإسراء: 52]. واختصاص الجنس به في الآخرة حقيقة.

وقوله { وله الحكم } اللام فيه أيضاً للملك. والتقديم للاختصاص أيضاً. و{ الحكم }: القضاء وهو تعيين نفع أو ضر للغير. وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله { في الأولى والآخرة } عليه، أي له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله. وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها في قولهم { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس: 18] أي في الآخرة إن كان ما زعمتم من البعث.

وأما جملة { وإليه ترجعون } فمسوقة مساق التخصيص بعد التعميم، فبعد أن أثبت لله كل حمد وكل حكم، أي أنكم ترجعون إليه في الآخرة فتمجدونه ويُجري عليكم حكمه. والمقصود بهذا إلزامهم بإثبات البعث.

وتقديم المجرور في { وإليه ترجعون } للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بالانتهاء إليه أي إلى حكمه.