التفاسير

< >
عرض

إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٦٠
-آل عمران

التحرير والتنوير

استئناف نشأ عن قوله: { ولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم } [آل عمران: 157] أو عن قوله: { لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [آل عمران: 156] الآية.

ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام، وخَذْله إيّاهم في بعضها، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قوله: { يأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [محمد: 7] وقوله: { فأثابكم غماً بغم } [آل عمران: 153] وقوله الآتي: { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا } [آل عمران: 165] وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزجّ بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجيادُ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك. وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه: لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله: { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137] إلى هنا، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافعٍ في تلقِّي الماضي، وصالحٍ للعمل به في المستقبل، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر.

والنَّصر: الإعانة على الخلاص من غلب العَدوّ ومُريد الإضرار.

والخِذْلانُ ضدّه: وهو إمساك الإعانة مع القدرة، مأخوذ من خَذلت الوَحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي.

ومعنى { إن ينصركم } { وإن يخذلكم } إنْ يُرد هَذا لَكم، وإلاّ لما استقام جواب الشرط الأوّل، وهو «{ فلا غالب لكم } إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفِعل، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله: { فلا غالب لكم }، لأنَّه يصير من الإخبار بالمعلوم، كما تقول: إن قمتَ فأنتَ لست بقَاعد. وأمَّا فعل الشرط الثَّاني وهو: { وإن يخذلكم } فيقدّر كذلك حَمْلاً على نظيره، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى: { إذا قمتم إلى الصلوٰة فاغسلوا وجوهكم } [المائدة: 6] الآية.

وجَعْل الجواب بقوله: { فلا غالب لكم } دون أن يقول: لا تغلبوا، للتنصيص على التَّعميم في الجواب، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئياً أي لا تغلبوا من بعض المغالبين، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم.

والاستفهام في قوله: { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره.

وكلمة { من بَعده } هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة: أي فمن الَّذي ينصركم دونَه أو غيرَه أي دون اللَّه، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة، واستعمال (بعد) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى: { فمن يهديه من بعد الله } [الجاثية: 23] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية: بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذلك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ { من بعده }.

وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } تذييل قصد به الأمر بالتَّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى: من أسبابٍ عادية وهي الاستعداد، وأسبابٍ نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضَى الله تعالى.