التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٥٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٥٦
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
٥٧
-آل عمران

التحرير والتنوير

استئناف؛ و (إذ) ظرف غير متعلق بشيء، أو متعلق بمحذوف، أي اذكُر إذ قال الله: كما تقدم في قوله: { { وإذْ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30] وهذا حكاية لأمرِ رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناساً له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه. مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيراً له بأنّ الله مظهر دينَه؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة، فلذلك قال له: { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } والنداء فيه للاستئناس، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبض نبي حتى يُخَيَّر" .

وقوله: { إني متوفيك } ظاهر معناه: إنّي مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفَّى الشيءَ أنه قَبَضه تاماً واستوفاه. فيقال: توفاه اللَّهِ أي قدّر موته، ويقال: توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفّي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى: { وهو الذي يَتَوَفَّاكم بالليل } [الأنعام: 60] - وقوله - { الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتها والتي لم تَمُتْ في منامها فيُمْسِك التي قضى عليها الموتَ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى } [الزمر: 42]. أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام كقوله: { هو الذي يتوفاكم بالليل } - ثم قال - { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فَصَل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرّع بالبيان بقوله: فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى، فالكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة: فلمَا توفيتَني كنت أنتَ الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملُها على النوم بالنسبة لِعيسى لا معنى له؛ لأنهُ إذا أراد رفعَه لم يلزم أن ينام؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه: إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك: مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل: «يحتمل أنّ قوله: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز».

وقال الربيع: هي وفاة نوم رفعه الله في منامه، وقال الحسن وجماعة: معناه إنّي قابضك من الأرض، ومخلصك في السماء، وقيل: متوفيك متقبل عملك. والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة: أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث "أرواح الشهداء في حواصل طيور خضْرٍ" ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها، وجعل حياته بحياة ثانية، فقال وهب بن منبه: توفاه الله ثلاثَ ساعات ورفعه فيها، ثم أحياه عنده في السماء. وقال بعضهم: توفّي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالكٌ عن تعيين كيفية ذلك، ولقد وُفِّقا وسُدِّدا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء، وأن يكون نزوله - إن حمل على ظاهره - بعثاً له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ «يبعث الله عيسى فيقتل الدجال» رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.

وقد قيل في تأويله: إنّ عطف { ورافعك إلي } على التقديم والتأخير؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود: "ويمكث (أي عيسى) أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلّي عليه المسلمون" والوجه أن يحمل قوله تعالى: { إني متوفيك } على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل، أنّ ذلك يقوم مقام البعض، وأنّ قوله - في حديث أبي هريرة - ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جَمْع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان.

والتطهير في قوله: { ومطهرك } مجازي بمعنى العصمة والتنزيه؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي، ولكن لو سُلط عليه أعداؤُه لكان ذلك إهانة له.

وحذف متعلق «كفروا» لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيرُه لا يظنّ أنّه تطهيرٌ من المشركين بقرينة السياق.

والفوقية في قوله: { فوق الذين كفروا } بمعنى الظهور والانتصار، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله: { إلى يوم القيامة }.

والمراد بالذين اتبعوه: الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك، إلى أن نُسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم.

وجملة { ثم إليّ مرجعكم } عطف على جملة { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاءِ اللَّهِ متّبِعي عيسى والكافرين به. وثم للتراخي الرتبي؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه، أعظمُ درجةً وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا.

والظاهر أنّ هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى، وأنّ ضمير مرجعكم، وما معه من ضمائر المخاطبين، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به.

ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني.

والمَرْجعِ مصدر ميمي معناه الرجوع. وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي، فيجوز أن يكون المرادُ به البعثَ للحساب بعد الموت، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير، ويجوز أن يكون مراداً به انتهاء إمهال الله إياهم في أجلٍ أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا.

ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله: { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون. وقوله: { فأما الذين كفروا فأعذبهم } - إلى قوله - { فنوفيهم أجورهم } تفصيل لما أجمل في قوله { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون }. وقوله { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والأخرة } المقصود من هذا الوعيدِ هو عذاب الآخرة لأنه وقع في حَيز تفصيل الضمائر من قوله: { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } وإنما يكون ذلك في الآخرة، فذُكِر عذاب الدنيا هنا إدماج. فإن كان هذا مما خاطب الله به عيسى فهو مستعمل في صريح معناه، وإن كان كلاماً من الله في القرآن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمونَ، صح أن يكون مراداً منه أيضاً التعريض بالمشركين في ظلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم عن مكابرة منهم وحسد. وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله: قل إن كنتم تحبون الله في هذه السورة.

وجملة { وما لهم من ناصرين } تذييل لجملة { أعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم علينا في تعذيبهم الذي قدّره الله تعالى.

واعلم أنّ قوله { فأعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين:

فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا: من شدة وضعف وعدم استمرار، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاءُ الناصرين في المدة التي قدّرها الله لتعذيبهم في الدنيا، وهذا متفاوت، وقد وَجَد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر.

وأما عذاب الآخرة: فهو مطلق هنا، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد، كما قال: { وما هم بخارجين من النار } [البقرة: 167].

وجملة { والله لا يحب الظالمين } تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثانٍ لجملة { فأعذبهم عذاباً شديداً } بصريح معناها، أي أعذّبهم لأنهم ظالمون والله لا يحبّ الظالمين وتذييلٌ لجملة { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } إلى آخرها، بكناية معناها؛ لأنّ انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافياً.

ومعنى كونهم ظالمين أنهم ظلَموا أنفسهم بكفرهم وظلَمَ النصارى الله بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابناً للَّه تعالى، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم.

وعذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية، والتشريد في الأقطار، وكونهم يعيشون تبعاً للناس، وعذاب الآخرة هو جهنم. ومعنى { وما لهم من ناصرين } أنهم لا يجدون ناصراً يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفَر به وأسند { فنوفيهم } إلى نون العظمة تنبيهاً على عظمة مفعول هذا الفاعل؛ إذ العظيم يعطى عظيماً. والتقدير { فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة } بدليل مقابله في ضدّهم من قوله: { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة: منها رضا اللَّهِ عنهم، وبَركاته معهم، والحياة الطيبة، وحسن الذكر. وجملة { والله لا يحب الظالمين } تذييل، وفيها اكتفاء: أي ويحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وقرأ الجمهور: فنوفيهم - بالنون - وقرأه حفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب، فيوفيهم بياء الغائب على الالتفات.