التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٨
قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٢٩
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
٣٠
-السجدة

التحرير والتنوير

يجوز أن يكون عطفاً على جملة { ثم أعرض عنها } [السجدة: 22]، أي: أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها. ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل. ويجوز أن يعطف على جملة { { وقالوا أإذا ضَلَلْنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد } [السجدة: 10].

والمعنى: أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذّبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى: { ولنُذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } [السجدة: 21].

و{ الفتح }: النصر والقضاء. والمراد به: نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدوّ نصر لضِده وكان المسلمون يتحدّون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم، فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاماً مستعملاً في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه. وحكاية قولهم بصيغة المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى: { { يجادلنا في قوم لوط } [هود: 74] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه. والمعنى: إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته. وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالاً لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله.

واسم الإشارة في { هذا الفتح } مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينهِ مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم:

متى يأت هذا الموتُ لا يلف حاجةلنفسي إلا قَدْ قضيت قضاءها

إنباء بقلة اكتراثه بالموت ومنه قوله تعالى حكاية عنهم: { أهذا الذي يذكر ءالهتكم } [الأنبياء: 36] فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يومَ الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أملَ الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظاراً لتدارك ما فاتهم، أي إفادتُهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ { { ربنا أبصَرْنا وسمِعْنا فارجعنا نعملْ صالحاً إنّا موقنون } [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحلّ به فـ { { لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [الأنعام: 158]. ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.

وإظهار وصف { الذين كفروا } في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون { متى هذا الفتح } لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم. ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييساً من إيمان المجادلين منهم المتصدّين للتمويه على دهمائهم. وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتياً لا إعراض مستمر، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية.

والانتظار: الترقب. وأصله مشتق من النظر فكأنه مطاوع: أنظره، أي أراه فانتظر، أي: تكلف أن ينظُر. وحذف مفعول { انتظر } للتهويل، أي: انتظر أياماً يكون لك فيها النصر، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إنْ كان حصلت بعد نزول هذه السورة، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.

وجملة { إنهم منتظرون } تعليل لما تضمنه الأمر بالانتظار من إضمار العذاب لهم. ومفعول { منتظرون } محذوف دل عليه السياق، أي منتظرون لكم الفرصة لحربكم أو لإخراجكم قال تعالى: { { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } [الطور: 30] وقال: { { ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء } [التوبة: 98] أي لم نكن ظالمين في تقدير العذاب لهم لأنهم بدأوا بالظلم.