التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً
١٢
وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً
١٣
-الأحزاب

التحرير والتنوير

عطف على { وإذْ زاغتْ الأبصار } [الأحزاب: 10] فإن ذلك كله مما ألحَق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدَّه يوم الأحزاب.

وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم { ما وَعَدَنا الله ورسوله } الخ... أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعون { إنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون } [الشعراء: 27].

والغرور: ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب، وقد تقدم عند قوله تعالى: { لا يغرنّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد } في سورة آل عمران (196)، وقوله تعالى: { زُخْرف القول غروراً } في سورة الأنعام (112). والمعنى: أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلاَّ فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يُرْوَ أنهم وُعدوا فيها بنصر. { والذين في قلوبهم مرض } هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّمُوا عليه.

والمراد بالطائفة الذين قالوا: { يا أهل يثرب لا مقامَ لكم فارجعوا } عبدُ الله بن أبيِّ ابنُ سَلول وأصحابُه. كذا قال السدي. وقال الأكثر: هو أوس بن قَيظي أحدُ بني حارثة، وهو والد عَرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ:

رأيت عرابةَ الأوْسيَّ يسموإلى الخيرات منقطع القرين

في جماعة من منافقي قومه. والظاهر هو ما قاله السُدّي لأن عبد الله بن أبَيّ رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم.

وقوله { لا مقام لكم } قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، أي: الوجود. وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي: محلّ الإقامة. والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أُحُد.

و{ يثرب }: اسم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أبو عبيدة يثرب: اسم أرض والمدينة في ناحية منها، أي: اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض. سميت باسم يثرب من العمالقة، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرَم بن سام بن نوح. وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تسميتها يثرب وسماها طَابة.

وفي قوله { يا أهل يثرب لا مقام لكم } محسِّنٌ بديعيّ، وهو الاتِزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عَروضه الثانية المخبُولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فَعَلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فَعَلن.

والمراد بقوله { فريق منهم } جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وليسوا فريقاً من الطائفة المذكورة آنفاً، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة، أي: غير حصينة.

وجملة { ويستأذن فريق } عطف على جملة { قالت طائفة }، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلِحُّون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه.

والعورة: الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي، قال لبيد:

وأجَنَّ عوراتتِ الثغورِ ظَلامُها

والاستئذان: طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخذال واستحيَوا. ولم يذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم. وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه. وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم، وأيضاً فإن في الفعل المضارع من قوله { يستأذن } إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستَعلم ذلك، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سَلِمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى: { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } [آل عمران: 122] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أُحُد. وفي الحديث: أن بني سَلِمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم" أي خُطاكم. فهذا الفريق منهم يعتلُّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها.

والتأكيد بحرف { إنَّ } في قولهم { إن بيوتنا عورة } تمويه لإظهار قولهم { بيوتنا عورة }في صورة الصدق. ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر.

وجملة { وما هي بعورة } [الأحزاب: 15] إلى قوله { { مسؤولا } [الأحزاب: 15] معترضة بين جملة { يستأذن فريق منهم } الخ وجملة { لن ينفعكم الفرار } [الأحزاب: 16] الآية. فقوله: { وما هي بعورة } تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها. ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد.