التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
-الأحزاب

التحرير والتنوير

لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله { { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [الأحزاب: 12] قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافاً وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا، كل ذلك لم يُخِرْ عزائمهم ولا أدخل عليهم شكاً فيما وعدهم الله من النصر.

وكان الله وعدهم بالنصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة { { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّراءُ وزُلْزِلُوا حتى يقولُ الرسول والذين ءامنوا معه مَتَى نصرُ الله ألا إن نصر الله قريب } [البقرة: 214]. فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتُلوا وزُلْزِلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة. وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام، كذا روي عن ابن عباس، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين: أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزُلزلوا راجعهم الثبات الناشىء عن قوة الإيمان وقالوا: { هذا ما وعدنا الله ورسوله } أي: من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدَّقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب، فالإشارة { بهذا } إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدَقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافاً لقول المنافقين: { { ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً } [الأحزاب: 12] فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك.

والوعد: إخبار مخبر بأنه سيعمل عملاً للمُخبَر (بالفتح).

ففعل { صدق } فيما حكي من قول المؤمنين { وصدق الله ورسوله } مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يُجعل استقباله كالمضي مثل { { أتى أمرُ الله } [النحل: 1] فهو مستعمل في معنى التحقق. أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل { رأى المؤمنون الأحزاب } دون أن يقال: ولما جاءت الأحزاب. فإن أبيتَ استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي.

وضمير { زادهم } المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة، أي: وما زادهم ما رأوا إلا إيماناً وتسليماً، أي: بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكاً في تحقق الوعد، والمعنى: وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيماناً، أي: ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيماناً، أي: لم يزدهم خوفاً على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقِّب أن ينازله العدوّ الشديد، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب.

والتسليم: الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليمُ النفس للمنقاد إليه، وتقدم في قوله تعالى { { ويسلّموا تسليماً } في سورة النساء (65). ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم. فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما اشتدّ البلاء على المسلمين استشار رسول الله السعدَيْن سعدَ بن عُبادة وسعدَ بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينةَ بنَ حصن، والحارثَ بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة، فقالا: يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا؟ قال رسول الله: بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتْكم عن قوس واحد وكَالَبُوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ مَّا. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرى أو بَيْعاً أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيفَ حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله: فأنت وذاك. فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال.

ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول من الثبات معه كما قال تعالى: { { ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً } [النساء: 65].

وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله { ولمَّا رأى المؤمنون الأحزاب } إلى آخره... فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم، أي: إيمان مع إيمانهم.

والإيمان الذي زادهُمُوه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القويّ، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال يقوِّي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث، وهذا من قبيل قوله تعالى: { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [الفتح: 4] وقوله: { { فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيماناً } كما تقدم في سورة براءة (124)، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقض لها وانتفاء لأصلها. وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة كقوله تعالى: { { الأعراب أشدُّ كُفْراً ونِفاقاً } [التوبة: 97] وقوله: { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [التوبة: 125]. وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأيمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي.