التفاسير

< >
عرض

يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
-الأحزاب

التحرير والتنوير

تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهِنّ فخيرهُنّ فاخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة، فخاطبهن ربُّهُنّ خطاباً لأنهن أصبحْنَ على عهد مع الله تعالى أن يؤتِيَهُنّ أجراً عظيماً. وقد سمّاه عمر عهداً فإنه كان كثيراً ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رَفَعَ بها صوته فقيلَ له في ذلك، فقال: أُذكِّرهُنّ العهدَ، ولما كان الأجر الموعود منوطاً بالإحسان أُريد تحذيرهن من المعاصي بلوغاً بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذاباً مضاعفاً. ونِدَاؤُهُنّ للاهتمام بما سيُلْقَى إليهن. ونَادَاهُنّ بوصف { نساء النبي } ليعلَمْنَ أن ما سيُلقَى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهِنّ. والنساء هنا مراد به الحلائل، وتقدم في قوله تعالى: { ونساءَنا ونساءَكم } في سورة آل عمران (61). وقرأ الجمهور { يَأتِ } بتحتية في أوله مراعاة لمدلول { مَن } الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث. وقرأه يعقوب { مَن تأت } بفوقية في أوله مراعاة لِمَا صْدَق { مَن } أي: إحدى النساء. وقرأ الجمهور { يضاعَف } بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنياً للنائب ورفع { العذابُ } على أنه نائب فاعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر { نضَعِّف } بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب { العذابَ } على المفعولية؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده: { وكان ذلك على الله يسيراً } إظهاراً في مقام الإضمار. وقرأه أبو عمرو ويعقوب { يُضَعَّف } بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة. ومفاد هذه القراءات متّحِدُ المعنى على التحقيق.

وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة مَعمَر ابن المثنَّى: أن بين (ضاعف وضَعَّف) فرقاً، فأما (ضاعف) فيفيد جعْل الشيء مِثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذِبة. وأما (ضَعَّف) المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله. قال الطبري: وهذا التفريق لا نعلم أحداً من أهل العلم ادعاه غيرهما. وصيغة التثنية في قوله { ضعفين } مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى: { { ثم ارجع البصر كرَّتيْن ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [الملك: 4] لظهور أن البصر لا يرجع خاسئاً وحسيراً من تكرّر النظر مرتين، والتثنية ترِدُ في كلام العرب كناية عن التكرير، كقولهم: لَبَّيْك وسَعْديك، وقولهم: دَوَالَيْك، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه.

والفاحشة: المعصية، قال تعالى: { { قل إنما حرَّم ربيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [الأعراف: 33] وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه.

والمبيِّنة: بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبيِّن نفسها وكذلك قرأها الجمهور. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء، أي: يبيّنها فاعِلها.

والمضاعفة: تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره.

والضعف: مماثل عدد ما. وتقدم في قوله تعالى { { فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً من النار } في سورة الأعراف (38). ومعنى مضاعفة العذاب: أنه يكون ضعف عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهنّ، وهو ضعف في القوة وفي المدة، وأريد: عذاب الآخرة.

وجملة { وكان ذلك على الله يسيراً } معترضة، وتقدم القول في نظيرها آنفاً. والمعنى: أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء، قال تعالى: { { كانتا تحتَ عبدَيْن من عِبادنا صالحيْن } [التحريم: 10] إلى قوله: { { فلم يُغْنِيَا عنهما من الله شيئاً } [التحريم: 10].

والتعريف في { العذاب } تعريف العهد، أي: العذاب الذي جعله الله للفاحشة.