التفاسير

< >
عرض

لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٠
مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً
٦١
-الأحزاب

التحرير والتنوير

انتقال من زَجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وأولئك هم المنافقون الذين ابتدىء التعريض بهم من قوله تعالى: { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [الأحزاب: 53] إلى قوله تعالى: { عظيماً } [الأحزاب: 53]، ثم من قوله: { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [الأحزاب: 57] إلى قوله: { { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } [الأحزاب: 59].

وصرح هنا بما كُني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنهم بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لُفَّ لِفَّهُم.

و{ الذين في قلوبهم مرض } قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإِيمان.

و{ المرجفون في المدينة }: هم المنافقون، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد، قاله أبو رزين.

وجملة { لئن لم ينته } استئناف ابتدائي. وحذف مفعول { ينته } لظهوره، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين.

والإِرجاف: إشاعة الأخبار. وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة لأن الإِشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدَّق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفَان وهو الاضطراب والتزلزل.

فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدِّثون بها في مجالس ونَوادٍ ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. ومعنى الإِرجاف هنا: أنهم يرجفون بما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون: هُزموا أو أَسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإِيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ظن بعضهم ببعض. وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وأتباعهم وهم الذين قال الله فيهم { { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } في سورة النساء (83).

فهذه الأوصاف لأصناف من الناس. وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه { لنغرينك بهم } لا يساعد أن فيهم مؤمنين.

واللام في { لئن } موطئة للقسم، فالكلام بعدها قسم محذوف. والتقدير: والله لئن لم ينته.

واللام في { لنغرينك } لام جواب القسم، وجواب القسم دليل على جواب الشرط.

والإِغراء: الحثّ والتحريض على فعل. ويتعدَّى فعله بحرف (على) وبالباء، والأكثر أن تعديته بــــ (على) تفيد حثاً على الفعل مطلقاً في حدّ ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثاً على الإِيقاع بشخص لأن الباء للملابسة. فالمغرى عليه ملابس لذات المجرور بالباء، أي واقعاً عليها. فلا يقال: أغريته به، إذا حرضه على إحسان إليه.

فالمعنى: لنغرينك بعقوبتهم، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله: { أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } فإذا حلّ ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم.

واختير عطف جملة { لا يجاورونك } بــــ{ ثم } دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإِغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى: { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل } [البقرة: 191] أي وفتنة الإِخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل.

واستثناء { إلا قليلاً } لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس جارياً على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلاّ مدة قليلة، وهي ما بين نزول الآية والإِيقاع بهم. و{ قليلاً } صفة لمحذوف دلّ عليه { يجاورونك } أي جواراً قليلاً، وقلته باعتبار مدة زمنه. وجعله صاحب «الكشاف» صفة لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوباً على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفاً.

و{ ملعونين } حال مما تضمنه { قليلاً } من معنى الجوار. فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله، والتقدير: إلا جوارهم ملعونين. وجعل صاحب «الكشاف» { ملعونين } مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحالِ كما في قوله تعالى: { { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [الأحزاب: 53]. وبونُ ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه. والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه.

واللعن: الإِبعاد والطرد. وتقدم قوله تعالى: { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } في سورة الحجر (35)، وهو مستعمل هنا كناية عن الإِهانة والتجنب في المدينة، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلاً فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفاً من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قوله: { ملعونين } إيجاز بديع.

وقوله: { أينما ثُقِفُوا } ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلِقٌ بـــ{ ملعونين } لأن { ملعونين } حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة، فأفاد عموم أمكنة المدينة. و{ أينما }: اسم زمان متضمن معنى الشرط. والثقف: الظفَر والعثور على العدوّ بدون قصد. وقد مَهَّد لهذا الفعل قوله: { ملعونين } كما تقدم.

ومعنى { أخذوا } أُمسكوا. والأخذ: الإِمساك والقبض، أي أُسروا، والمراد: أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم.

والتقتيل: قوة القتل. والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف نوعه وأيضاً هو شديد في كونه سريعاً لا إمهال لهم فيه.

و{ تقتيلاً } مصدر مؤكد لعامله، أي قتِّلوا قتلاً شديداً شاملاً. فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير { قُتِّلوا }، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل، فالمعنى: قتلوا قتلاً شديداً لا يفلت منه أحد.

وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإِرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحداً ولا أنهم خرج منهم أحد.

وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فرداً صالحاً أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" . ولهذا شرعت استتابة المرتدّ قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة، وشرعت دعوة الكفّار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإِسلام قبل الشروع في غزوهم فإن أسلموا وإِلاّ عُرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم في الذمة انتفاعاً للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم.

وأما قتل القاتل عَمداً فشُرع فيه مجاراةً لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بعض الأمة بعضاً، إذ لا دواء لتلك العلة إلا القصاص. ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله. ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الذين يحاربون الله ورسوله: إن (أَو) فيها للتنويع لا للتخيير فقال: يكون الجزاء بقدر جُرْم المحارب وكثرة مُقامه في فساده. وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله.