التفاسير

< >
عرض

مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢
-فاطر

التحرير والتنوير

هذا من بقية تصدير السورة بـــ { الحمد لله فاطر السماوات والأرض } [فاطر: 1]، وهو عطف على { فاطر السماوات والأرض } الخ. والتقدير: وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه.

و{ ما } شرطية، أي اسم فيه معنى الشرط. وأصلها اسم موصول ضُمِّن معنى الشرط. فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جواباً واقترنت بالفاء لذلك، فأصل { ما } الشرطية هو الموصولة. ومحل { ما } الابتداء وجواب الشرط أغنى عن الخبر.

و{ من رحمة } بيان لإِبهام { ما } والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب.

والفتح: تمثيلية لإِعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء، فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح، وبيانُه بقوله: { من رحمة } قرينة الاستعارة التمثيلية.

والإِمساك حقيقته: أخذ الشيء باليد مع الشدّ عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت، وهو يتعدّى بنفسه، أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح.

وأما قولهم: أمسك بكذا، فالباء إمّا لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى: { { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [الممتحنة: 10]، وإمّا لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى: { { فقد استمسك بالعروة الوثقى } [لقمان: 22].

وقد أوهم في «القاموس» و«اللسان» و«التاج» أنه لا يتعدى بنفسه.

فقوله هنا: { وما يمسك } حذف مفعوله لدلالة قوله: { ما يفتح الله للناس من رحمة } عليه. والتقدير: وما يمسكه من رحمة، ولم يُذكر له بيان استغناءً ببيانه من فعل.

والإِرسال: ضد الإِمساك، وتعدية الإِرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل.

و{ من بعده } بمعنى: من دونه كقوله تعالى: { { فمن يهديه من بعد الله } [الجاثية: 23] { { فبأي حديث بعد الله } [الجاثية: 6]، أي فلا مرسل له دون الله، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه. وتذكير الضمير في قوله: { فلا مرسل له } مراعاة للفظ { ما } لأنها لا بيان لها، وتأنيثه في قوله: { فلا ممسك لها } لِمراعاة بيان { ما } في قوله: { من رحمة } لقربه.

وعطف { وهو العزيز الحكيم } تذييل رجّح فيه جانب الإِخبار فعطف، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولاً لإِفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها، وأنه لا يستطيع أحد نقضَ ما أبْرَمَه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه، فأنّ نقض ما أبرم ضرب من الهوان والمذلّة. ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى:

علقمَ ما أنت إلى عامرالناقِض الأوتار والواتر

وضمير { لها } وضمير { له } عائدان إلى { ما } من قوله: { ما يفتح الله للناس من رحمة }، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى { ما } فإنه اسم صادق على { رحمة } وقد بُيّن بها، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ { ما } لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه. وهما اعتباران كثيران في مثله في فصيح الكلام، فالمتكلم بالخيار بين أيّ الاعتبارين شاء. والجمع بينهما في هذه الآية تفنن. وأوثر بالتأنيث ضمير { ما } لأنها مبيّنة بلفظ مؤنث وهو { من رحمة }.