{ وَمَا يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ * وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ * وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِى ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ }.
أربعة أمثال للمؤمنين والكافرين، وللإِيمان والكفر، شبه الكافر بالأعمى، والكُفر بالظلمات، والحرور والكافر بالميّت، وشبه المؤمن بالبصير وشبه الإِيمان بالنور والظل، وشبه المؤمن بالحي تشبيه المعقول بالمحسوس. فبعد أن بيّن قلة نفع النذارة للكافرين وأنها لا ينتفع بها غير المؤمنين ضرب للفريقين أمثالاً كاشفة عن اختلاف حاليهما، وروعي في هذه الأشباه توزيعها على صفة الكافر والمؤمن، وعلى حالة الكفر والإِيمان، وعلى أثر الإِيمان وأثر الكفر.
وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقالُ إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإِيضاح ما أفاده القصر في قوله:
{ { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [فاطر: 18] كما تقدم آنفاً من أنه قصر إضافي قصرَ قلب، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه. والمقصود: أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإِدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى:
{ { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } [الروم: 7]، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه. والعمى يعبر به عن الضلال، قال ابن رواحة:
أرانا الهدى بعد العَمَى فقلوبنابه موقنات أن ما قال واقع
ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبيّن للأشياء، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتقادية، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام. وجي في { الظلمات } بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلا بصيغة الجمع. وقد تقدم في قوله:
{ { وجعل الظلمات والنور } في الأنعام (1). وضُرِب الظِلّ مَثَلاً لأثر الإِيمان، وضدُّه وهو الحرور مثلاً لأثر الكفر؛ فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالباً إلا في بعض فصل الشتاء، وقوبل بالحَرور لأنه مُؤْلِم ومعذّب في عرفهم كما علمت، وفي مقابلته بالحرور إيذان بأن المراد تشبيهه بالظل في حالة استطابته.
و{ الحرور } حر الشمس، ويطلق أيضاً على الريح الحارة وهي السموم، أو الحَرور: الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار.
وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة { الحرور }. وفواصل القرآن من متممات فصاحته، فلها حظ من الإِعجاز.
فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريّث وإتقان. وحال الكافر يشبه الحَرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه العقول من التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجَّلة متفككة.
واعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطْف وأدوات نفي؛ فكلّ من الواوين اللذين في قوله: { ولا الظلمات } الخ، وقوله: { ولا الظل } الخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبيهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين. والتقدير: ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظِّل والحرور، وقد صرح بالمقدر أخيراً في قوله: { وما يستوي الأحياء ولا الأموات }.
وأما الواوات الثلاثة في قوله: { والبصير } { ولا النور } { ولا الحرور } فكل واو عاطف مفرداً على مفرد، فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق؛ فــــ{ البصير } عطف على { الأعمى }، و{ النور } عطف على { الظلمات }، و{ الحرور } عطف على { الظل }، ولذلك أعيد حرف النفي.
وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما { ولا الظلمات ولا الظل }، واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو { ولا النور }، وواو { ولا الحرور }، والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف { لا } وبعضه بالمرادف وهو حرف { ما } ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدىء به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس. وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل، ومنه قوله تعالى:
{ { لا تستوي الحسنة ولا السيئة } في سورة فصّلت (34). وجملة { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل { يستوي } لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد (16):
{ { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } }. فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام (122)
{ { أو من كان ميّتاً فأحييناه } }، وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره. واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين. { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى ٱلْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ }.
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه
{ { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون } [فصلت: 26]، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه { { الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه } [الزمر: 18]، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له: إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات، فجاء قوله: { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } على مقابلة قوله: { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب. فجملة { إن الله يسمع من يشاء } تعليل لجملة
{ { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [فاطر: 18]، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين: فريقاً انتفع بالإِنذار، وفريقاً لم ينتفع، فعلل ذلك بــــ{ إن الله يسمع من يشاء }. وقوله: { وما أنت بمسمع من في القبور } إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك.
واستعير { من في القبور } للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات بـــ{ من في القبور } لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض. فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى.
وجيء بصيغة الجمع { الأحياء } و{ الأموات } تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور، وأما جمع { الظلمات } فقد علمت وجهه آنفاً.
وجملة { إن أنت إلا نذير } أفادت قصراً إضافياً بالنسبة إلى معالجة تسميعهم الحقَ، أي أنت نذير للمشابهين مَن في القبور ولسْت بمُدْخِل الإِيمان في قلوبهم، وهذا مسوق مساق المعذرة للنبي صلى الله عليه وسلم وتسليته إذ كان مهتَمًّا من عدم إيمانهم.
والنذير: المنبىء عن توقع حدوث مكروه أو مؤلم.
والاقتصار على وصفه بالنذير لأن مساق الكلام على المصمِّمين على الكفر.