التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
-فاطر

التحرير والتنوير

{ ثمّ } للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطفها الجمل فهي هنا لعطف الجمل عطفاً ذكرياً، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات، فهذه الجملة كالمستأنفة، و{ ثم } للترقي في الاستئناف. وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم وعروج في مسرّته وتبشيره، فبعد أن ذُكِّر بفضيلة كتابه وهو أمر قد تقرر لديه زيد تبشيراً بدوام كتابه وإيتائه أمة هم المصطَفون من عباد الله تعالى، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أمم من قبله كتبهم ورسلهم، لقوله: { فمنهم ظالم لنفسه } الآية، فهذه البشارة أهم عند النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأن القرآن حق مصدق لما بين يديه، لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده فوقعها أهمّ.

وحمل الزمخشري { ثم } هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلف في إقامة المعنى.

والمراد بــــ{ الكتاب } الكتاب المعهود وهو الذي سبق ذكره في قوله: { { والذي أوحينا إليك من الكتاب } [فاطر: 31] أي القرآن.

و{ أورثنا } جعلنا وارثِين. يقال: ورث، إذا صار إليه مال ميت قريب. ويستعمل بمعنى الكسب عن غير اكتساب ولا عوض، فيكون معناه: جعلناهم آخذين الكتاب منا، أو نَجعَل الإِيراث مستعملاً في الأمر بالتلقي، أي أمرنا المسلمين بأن يرثوا القرآن، أي يتلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الاحتمالين ففي الإِيراث معنى الإِعطاء فيكون فعل { أورثنا } حقيقاً بأن ينصب مفعولين. وكان مقتضى الظاهر أن يكون أحد المفعولين الذي هو الآخذُ في المعنى هو المفعولَ الأول والآخر ثانياً، وإنما خولف هنا فقُدِّم المفعول الثاني لأمْنِ اللبس قصداً للاهتمام بالكتاب المعطى. وأما التنويه بآخذي الكتاب فقد حصل من الصلة.

والمراد بالذين اصطفاهم الله: المؤمنون كما قال تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [الحج: 77] إلى قوله: { { هو اجتباكم } [الحج: 78]. وقد اختار الله للإِيمان والإِسلام أفضل أمة من الناس، وقد رويت أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى في مسند أحمد بن حنبل وغيره ذكرها ابن كثير في «تفسيره».

ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بُشروا به جيء بالتفريع في قوله: { فمنهم ظالم لنفسه } إلى آخره، فهو تفصيل لمراتب المصطفَيْن لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها، فمناط الاصطفاء هو الإِيمان والإِسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام.

وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلاً لمسرَّته.

والفاء في قوله: { فمنهم ظالم لنفسه } الخ تفصيل لأحوال الذين أورثوا الكتاب أي أعطوا القرآن. وضمير «منهم» الأظهر أنه عائد إلى { الذين اصطفينا }، وذلك قول الحسن وعليه فالظالم لنفسه من المصطفَيْن. وقيل هو عائد إلى { عبادنا } أي ومن عبادنا علمه والإطلاق. وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك، وعليه فالظالم لنفسه هو الكافر. ويسري أثر هذا الخلاف في محْمل ضمير { { جنات عدن يدخلونها } [فاطر: 33] ولذلك يكون قول الحسن جارياً على وفاق ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وما هو مروي عن عائشة وهو الراجح.

والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرُّون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية فإن معصية المرء ربَّه ظلم لنفسه لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميماً عليه. قال تعالى حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نُهِيا عنه من أكل الشجرة { { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [الأعراف: 23] وقال: { { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } [النساء: 110] وقال: { { إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم } في سورة النمل (11)، وقال: { { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إن اللَّه يغفر الذنوب جميعاً } في سورة الزمر (53).

واللام في { لنفسه } لام التقوية لأن العامل فرع في العمل إذ هو اسم فاعل.

والمقتصد: هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة، فهم الذين اتقوا الكبار ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها وقد يلمون باللمم المعفو عنه من الله، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات، فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام، فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق عُلم أنه مرتكب حالة بين تينك الحالتين فهو ليس بظالم لنفسه وليس بسابق.

والسابق أصله: الواصل إلى غاية معينة قبلَ غيره من الماشين إليها. وهو هنا مجاز لإِحراز الفضل لأن السابق يحرز السَبق (بفتح الباء)، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنّى عن الإِكثار من الخير لأن السبْق يستلزم إسراع الخطوات، والإِسراع إكثار. وفي هذا السبق تفاوت أيضاً كخيل الحلبة.

والخيرات: جمع خير على غير قياس، والخير: النافع. والمراد بها هنا الطاعات لأنها أعمال صالحة نافعة لعاملها وللناس بآثارها.

والباء للظرفية، أي في الخيرات كقوله: { { يسارعون في الإِثم والعدوان } [المائدة: 62].

وفي ذكر الخيرات في القسم الآخر دلالة على أنها مرادة في القسمين الأولين فيؤول إلى معنى ظالم لنفسه في الخيرات ومقتصد في الخيرات أيضاً، ولك أن تجعل معنى { ظالم لنفسه } أنه ناقصها من الخيرات كقوله تعالى: { { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلِم منه شيئاً } أي لم تنقص عن معتادها في الإِثمار في سورة الكهف (33).

والإِذن مستعمل في التيسير على سبيل المجاز، والباء للسببية متعلقة بـ{ سابق }، وليس المراد به الأمر لأن الله أمر الناس كلهم بفعل الخير سواء منهم من أتى به ومن قصّر فيه.

ولك أن تجعل الباء للملابسة وتجعلها ظرفاً مستقراً في موضع الحال من { سابق } أي متلبساً بإذن الله ويكون الإِذن مصدراً بمعنى المفعول، أي سابق ملابس لما أذن الله به، أي لم يخالفه.

وعلى الوجه الأول هو تنويه بالسابقين بأن سبقهم كان بعون من الله وتيسير منه.

وفيما رأيتَ من تفسير هذه المراتب الثلاث في الآية المأخوذِ من كلام الأيمة، مع ضميمةٍ لا بد منها. تستغني عن التيه في مهامه أقوال كثيرة في تفسيرها تجاوزت الأربعين قولاً.

والإِشارة في قوله: { ذلك هو الفضل الكبير } إلى الاصطفاء المفهوم من { اصطفينا } أو إلى المذكور من الاصطفاء وإيراث الكتاب.

و{ الفضل }: الزيادة في الخير، و{ الكبيرُ } مراد به ذو العظم المعنوي وهو الشرف وهو فضل الخروج من الكفر إلى الإِيمان والإِسلام. وهذا الفضل مراتب في الشرف كما أشار إليه تقسيم أصحابه إلى: ظالم، ومقتصد، وسابق. وضمير الفصل لتأكيد القصر الحاصل من تعريف الجزأين، وهو حقيقي لأن الفضل الكبير منحصر في المشار إليه بذلك لأن كل فضل هو غير كبير إلا ذلك الفضل.

ووجه هذا الانحصار أن هذا الاصطفاء وإيراث الكتاب جمع فضيلة الدنيا وفضل الآخرة قال تعالى: { { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 97]، وقال: { { وعد اللَّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } [النور: 55].