التفاسير

< >
عرض

قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨
-يس

التحرير والتنوير

لما غلبتهم الحجة من كل جانب وبلغ قول الرسل { { وما علينا إلا البلاغ المبين } [يس: 17] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعاً للرسل بترك دعوتهم ظنّاً منهم أن يدَّعونه شيء خفي لا قِبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه، وذلك بأن زعموا أنهم تطيّروا بهم ولحقهم منهم شُؤْم، ولا بد للمغلوب من بارد العذر.

والتطير في الأصل: تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يَتوهم منه أحد أنه كان سبباً في لحاق شر به فصار مرادفاً للتشاؤم.

وفي الحديث: "لا عَدوى ولا طِيَرَة وإنما الطِيرَة على من تَطير" وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية، أي قالوا: إنا تشاءمنا بكم.

ومعنى { بكم } بدعوتكم، وليسوا يريدون أن القرية حلّ بها حادث سوء يعمّ الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضرّ العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم، وقد جوزه بعض المفسرين، وإنما معْنى ذلك: أن أحداً لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه. ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارناتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أموراً لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه، وأن يعينوا من المقارنات للتيمن ما يرغبون فيه وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة، فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله تعالى عن قوم فرعون: { { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يَطَّيَّروا بموسى ومن معه } [الأعراف: 131] وحكَى عن مشركي مكة { { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } [النساء: 78].

ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافاً بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جراء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا: { إنا تطيرنا بكم } أي يقولها الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.

ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا: { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم } وبذلك ألجأوا (بولس) و (برنابا) إلى الخروج من أنطاكية فخرجا إلى أيقونية وظهرت كرامة (بولس) في أيقونية ثم في (لسترة) ثم في (دربة). ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقّون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم ويَلحقونهم إلى كل بلد يحلّون به ليشغبوا عليهم، فمسّهم من ذلك عذاب وضرّ ورُجم (بولس) في مدينة (لسترة) حتى حسبوا أن قد مات.

ولام { لئن لم تنتهوا } موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم.