التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
٤٩
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
٥٠
-يس

التحرير والتنوير

ذكر عقب استهزائهم بالمؤمنين لمّا منعوهم الإِنفاق بعلة أن الله لو شاء لأطعمهم استهزاء آخر بالمؤمنين في تهديدهم المشركين بعذاب يحلّ بهم فكانوا يسألونهم هذا الوعد استهزاء بهم بقرينة قوله: { إن كنتم صادِقِينَ }، فالاستفهام مستعمل كناية عن التهكم والتكذيب. وأطلق الوعد على الإِنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعمّ ويتعين للخير والشر بالقرينة. واسم الإِشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس بن الخطيم:

متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حاجةلنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها

وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلا صيحة تأخذهم فلا يُفلتون من أخذتها.

وفعل { يَنظُرُونَ } مشتق من النَّظِرة وهو الترقب، وتقدم في قوله تعالى: { { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } في سورة [الأنعام: 158].

والصيحة: الصوت الشديد الخارج من حلق الإِنسان لزجر، أو استغاثة. وأطلقت الصيحة في مواضع في القرآن على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود: { { فأخذتهم الصيحة } [الحجر: 73]. فالصيحة هنا تحتمل المجاز، أي ما ينتظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة. والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية، فيكون أسلوب الكلام خارجاً على الأسلوب الحكيم إعراضاً عن جوابهم لأنهم لم يقصدوا حَقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه.

ومعنى { تأخُذُهُم } تُهلكهم فجأة، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المُغِيرين على الحيّ لأخذ أنعامه وسَبْي نِسائه، فأطلق على ذلك الحلولِ فعل { تأخُذُهُم } كقوله تعالى: { { فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } [الحاقة: 10] أي تحلّ بهم وهم يختصمون. وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقة عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها.

ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل، فيكون إنذاراً بعذاب الدنيا. ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعَرّض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر.

و { يَخصّمُونَ } من الخصومة والخصام وهو الجدال، وتقدم في قوله: { { ولا تكن للخائنين خصيماً } في سورة النساء (105)، وقوله: { { هذان خصمان } في سورة الحج (19). وأصله: يختصمون فوقع إبدالُ التاء صاداً لقرب مخرجيهما طلباً للتخفيف بالإِدغام.

واختلَف القراء في كيفية النطق بها، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك: فقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وأبو عمرو في رواية عنه { يَخصّمُونَ } بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صاداً والمسَكَّنةُ لأجل الإِدغام، ألقيت حركتُها على الخاء التي كانت ساكنة. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكوناً مختلَساً (بالفتح) لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشدّدة. وقرأه عاصم والكسائي وابنُ ذكوان عن ابن عامر ويعقوبُ وخلف { يَخصّمُونَ } بكسر الخاء وكسر الصاد مشدّدة. وقرأه حمزة { يخْصِمون } بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع (خَصم) قيل بمعنى جادل. وقرأ أبو جعفر { يخْصِّمون } بإسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين.

والاختصام: اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حلّ بهم من مفاجآت لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير. وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: { وهُمْ يَخصّمُونَ } لإِفادة تقوّي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم.

وفرع على { تأخُذُهُمْ } جملة { فَلا يَسْتَطِيعونَ توصِيَةً } أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحْتضَر، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله: { فَلا يَسْتَطِيعونَ توصِيَةً } كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم، إذ لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم إذ الهلاك يأتي على جميع الناس.

وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى: أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر، أو إلى ترقب وصول جيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكنون من الحديث مع من يُوصُونه بأهليهم.

والتوصية: مصدر وَصَّى المضاعف وتنكيرها للتقليل، أي لا يستطيعون توصية ما.

وقوله: { وَلاَ إلى أهْلِهِم يَرْجِعُونَ } يجوز أن يكون عطفاً على { تَوْصِيَةً }، أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعْر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك.

ويجوز أن يكون عطفاً على جملة «لا يستطيعون» فيكون مما شمله التفريع بالفاء، أي فلا يرجعون إلى أهلهم، أي هم هالكون على الاحتمالين، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير { يَرْجِعُونَ } بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولُّون كِبْر التكذيب والعناد، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح.