التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
-يس

التحرير والتنوير

بعد أن انقضى إبطال معاقد شرك المشركين أخذ الكلام يتطرق غرضَ تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وكيف قابلوها بكفران النعمة وأعرضوا عن شكر المنعم وعبادته واتخذوا لعبادتهم آلهة زعماً بأنها تنفعهم وتدفع عنهم وأدمج في ذلك التذكير بأن الأنعام مخلوقة بقدرة الله. فالجملة معطوفة عطف الغرض على الغرض.

والاستفهام: إنكار وتعجيب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة، فإن كانت الرؤية قلبية كان الإِنكار جارياً على مقتضى الظاهر، وإن كانت الرؤية بصرية فالإِنكار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل مشاهدتهم تلك المذكورات منزلةَ عدم الرؤية لعدم جريهم على مقتضى العلم بتلك المشاهدات الذي ينشأ عن رؤيتها ورؤية أحوالها، وعلى الاحتمالين فجملة الفعل المنسبك بالمصدر سادَّة مسدّ المفعولين للرؤية القلبية، أو المصدر المنسبك منها مفعول للرؤية البصرية.

وفي خلال هذا الامتنان إدماج شيء من دلائل الانفراد بالتصرف في الخلق المبطلة لإِشراكهم إياه غيره في العبادة وذلك في قوله: { أنَّا خلقنا } وقوله: { مما عملت أيدينا } وقوله: { وذَلَّلْناهَا } وقوله: { ولهم فيها منافِعُ ومشَارِبُ }، لأن معناه: أودعنا لهم في أضراعها ألباناً يشربونها وفي أبدانها أوباراً وأشعاراً ينتفعون بها.

وقوله: { لهم } هو محل الامتنان، أي لأجلهم، فإن جميع المنافع التي على الأرض خلقها الله لأجل انتفاع الإِنسان بها تكرمة له، كما تقدم في قوله تعالى: { { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } في سورة البقرة (29).

واستعير عمل الأيدي الذي هو المتعارف في الصنع إلى إيجاد أصول الأجناس بدون سابق منشأ من توالد أو نحوه فأسند ذلك إلى أيدي الله تعالى لظهور أن تلك الأصول لم تتولد عن سبب كقوله: { { والسماء بنيناها بأيد } [الذاريات:47]، فــــ (من) في قوله: { مما عَمِلتْ } ابتدائية لأن الأنعام التي لهم متولدة من أصول حتى تنتهي إلى أصولها الأصلية التي خلقها الله كما خلق آدم، فعبر عن ذلك الخلق بأنه بيد الله استعارة تمثيلية لتقريب شأن الخلق الخفيّ البديع مثل قوله: { { لما خلقت بيدي } [ص:75]. وقرينة هذه الاستعارة ما تقرّر من أن ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه المخلوقات، فذلك من العقائد القطعية في الإسلام. فأما الذين رأوا الإِمساك عن تأويل أمثال هذه الاستعارات فسمّوها المتشابه وإنما أرادوا أننا لم نصل إلى حقيقة ما نعبر عنه بالكنه، وأما الذين تأوّلوها بطريقة المجاز فهم معترفون بأن تأويلها تقريب وإساغة لغصص العبارة. فأما الذين أثبتوا وصف الله تعالى بظواهرها فباعثهم فرط الخشية، وكان للسلف في ذلك عذر لا يسع أهل العصُور التي فشَا فيها الإِلحاد والكفر فهم عن إقناع السائلين بمعزل، وقلم التطويل في ذلك مَغْزِل.

والأنعام: الإِبل والبقر والغنم والمعز. وفرع على خلقها للناس أنهم لها مالكون قادرون على استعمالها فيما يشاءُون لأن الملك هو أنواع التصرف. قال الربيع بن ضَبُع الفزاري من شعراء الجاهلية المعمَّرين:

أصبحت لا أحمل السلاح ولاأملِك رأسَ البعير إن نفرا

وهذا إدماج للامتنان في أثناء التذكير.

وتقديم { لَهَا } على { مالكون } الذي هو متعلَّقه لزيادة استحضار الأنعام عند السامعين قبل سماع متعلّقه ليقع كلاهما أمكن وَقع بالتقديم وبالتشويق، وقضى بذلك أيضاً رَعي الفاصلة.

وعدل عن أن يقال: فهُم مالكوها، إلى { فهم لها مالكون } ليتأتّى التنكير فيفيدَ بتعظيم المالكين للأنعام الكنايةَ عن تعظيم الملك، أي بكثرة الانتفاع وهو ما أشار إليه تفصيلاً وإجمالاً قوله تعالى: { وذللناها لهم } إلى قوله: { ولهم فيها منافِعُ ومشارِبُ }. وأن إضافة الوصف المُشبه الفعل وإن كانت لا تكسَب المضاف تعريفاً لكنها لا تنسلخ منها خصائص التنكير مثل التنوين. وجيء بالجملة الاسمية لإِفادة ثبات هذا الملك ودوامه.

والتذليل: جعل الشيء ذليلاً، والذليل ضد العزيز وهو الذي لا يدفع عن نفسه ما يكرهه. ومعنى تذليل الأنعام خلق مهانتها للإِنسان في جبلتها بحيث لا تُقدم على مدافعة ما يريد منها فإنها ذات قُوات يدفع بعضها بعضاً عن نفسه بها فإذا زجرها الإِنسان أو أمرها ذلّت له وطاعت مع كراهيتها ما يريده منها، من سير أو حمل أو حلب أو أخذ نسل أو ذبح. وقد أشار إلى ذلك قوله: { فمنها ركوبهم ومنها يأكلون }.

والرَّكوب بفتح الراء: المركوب مثل الحلوب وهو فعول بمعنى مفعول، فلذلك يطابق موصوفه يقال: بعير رَكوب وناقةٌ حَلوبة.

و { مِن } تبعيضية، أي وبعضها غير ذلك مثل الحرث والقتال كما قال: { ولهم فيها منافِعُ ومشَارِبُ } والمشارب: جمع مشرب، وهو مصدر ميمي بمعنى: الشرب، أريد به المفعول، أي مشروبات.

وتقديم المجروريْن بــــ (مِن) على ما حقهما أن يتأخرا عنهما للوجه الذي ذكر في قوله: { فهم لها مالِكُون }.

وفرع على هذا التذكير والامتنان قوله: { أفلا يَشْكُرونَ } استفهاماً تعجيبياً لتركهم تكرير الشكر على هذه النعم العِدّة فلذلك جيء بالمضارع المفيد للتجديد والاستمرار لأن تلك النعم متتالية متعاقبة في كل حين، وإذ قد عُجِب من عدم تكريرهم الشكر كانت إفادة التعجيب من عدم الشكر من أصله بالفحوى ولذلك أعقبه بقوله: { { واتخذوا من دُونِ الله ءَالِهَةً } [يس: 74].