التفاسير

< >
عرض

أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ
١٥٣
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
١٥٤
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
١٥٥
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ
١٥٦
فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٥٧
-الصافات

التحرير والتنوير

عود إلى الاستفتاء، ولذلك لم تعطف لأن بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال، فالمعنى: وقل لهم: اصطفى البنات.

قرأه الجمهور: { أصْطَفَى } بهمزة قطع مفتوحة على أنها همزة الاستفهام وأما همزة الوصل التي في الفعل فمحذوفة لأجل الوصل. وقرأه أبو جعفر بهمزة وصل على أن همزة الاستفهام محذوفة.

والكلام ارتقاء في التجهيل، أي لو سلمنا أن الله اتخذ ولداً فلماذا اصطفى البنات دون الذكور، أي اختار لذاته البنات دون البنين والبنون أفضل عندكم؟

وجملة { ما لكم كيف تحكمون } بَدَل اشتمال من جملة { أصْطفى البنات على البنين } فإن إنكار اصطفاء البنات يقتضي عدم الدليل في حكمهم ذلك، فأبدل { ما لكم كيف تحكمون } من إنكار ادعائهم اصطفاء الله البنات لنفسه. وقوله: { مَا لَكُم }: { ما } استفهام عن ذات وهي مبتدأ و { لكم } خبر.

والمعنى: أي شيء حصل لكم؟ وهذا إبهام فلذلك كانت كلمة «ما لك» ونحوها في الاستفهام يجب أن يُتلى بجملةِ حالٍ تُبيّن الفعل المستفهم عنه نحو: { ما لكم لا تنطقون } [الصافات: 92] ونحو { ما لك لا تأمنّا على يوسف } [يوسف: 11] وقد بُينتْ هنا بما تضمنته جملة استفهام { كيف تحكمون } فإن { كيف } اسم استفهام عن الحال وهي في موضع الحال من ضمير { تحكمون } قدمت لأجل صدارة الاستفهام. وجملة { تحكمُونَ } حال من ضمير { لكم } في قوله تعالى: { ما لكم } فحصل استفهامان: أحدهما عن الشيء الذي حصل لهم فحكموا هذا الحكم. وثانيهما عن الحالة التي اتصفوا بها لما حكي هذا الحكم الباطل. وهذا إيجاز حذف إذ التقدير: ما لكم تحكمون هذا الحكم، كيف تحكمونه. وحذف متعلق { تحكمون } لما دل عليه الاستفهامان من كون ما حكموا به مُنكراً يحق العَجَب منه فكلا الاستفهامين إنكار وتعجيب.

وفرّع عليه الاستفهام الإِنكاري عن عدم تذكرهم، أي استعمال ذُكرهم بضم الذال وهو العقل أي فمنكر عدم تفهمكم فيما يصدر من حكمكم.

و { أمْ لكم سلطانٌ مبينٌ } إضراب انتقالي فــــ{ أم } منقطعة بمعنى (بل) التي معناها الإضراب الصالح للإِضراب الإِبطالي والإِضراب الانتقالي. والسلطان: الحجة. والمُبين: الموضح للحق. والاستفهام الذي تقتضيه { أم } بعدها إنكاري أيضاً. فالمعنى: ما لكم سلطان مبين، أي على ما قلتم: إن الملائكة بنات الله.

وتفرع على إنكار أن تكون لهم حجة بما قالوا أن خوطبوا بالإِتيان بكتاب من عند الله على ذلك إن كانوا صادقين فيما زعموا، أي فإن لم تأتوا بكتاب على ذلك فأنتم غير صادقين. والأمر في قوله: { فَأتُوا } أمر تعجيز مثل قوله: { وإن كنتم في ريب ممّا نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [البقرة: 23].

وإضافة الكتاب إليهم على معنى المفعولية، أي كتاب مرسل إليكم. ومجادلتهم بهذه الجمل المتفننة رتبت على قانون المناظرة؛ فابتدأهم بما يشبه الاستفسار عن دعويين: دعوى أن الملائكة بنات الله، ودعوى أن الملائكة إناث بقوله: { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً } [الصافات: 149 - 150].

ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوماً من متكرر أقوالهم نزّلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث. وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم، فذلك الانتقال ابتداء مِن قوله: { وهم شاهِدونَ } [ الصافات:150] وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى، ثم قوله: { أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكِتابِكم إن كنتم صادِقينَ } فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبراً مقطوعاً بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلاّ من عند الله تعالى، لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك، فدليل المشاهدة منتف بالضرورة، ودليل العقل والنظر منتف أيضاً إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور.

فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة: أشير إلى دليل الحس بقوله: { وهُم شاهِدونَ }، وإلى دليلي العقل والسمع بقوله: { أم لكم سلطانٌ مبين }، ثم فرع عليه قوله: { فأتوا بكتابِكم إن كنتم صادقين } وهو دليل السمع. فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيرُه.

ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي بكتاب جاءهم من عند الله. وإنما عيّن لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحداً من خلقه، فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخباراً من الله في أن ينزَّل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوّزون ذلك لقولهم: { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [الإسراء:93]، ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب.

فذكر لفظ «كتابكم» إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: فأتوا به، أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتاباً من عند الله. وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإِيصال، والتقدير: بكتاب إليكم، لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدّى إلى المكتوب إليه بنفسه بل بواسطة حرف الجر وهو (إلى).

فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموه فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلاً باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله: { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد اللَّه وإنهم لكاذبون } [الصافات: 151 - 152] الواقعِ معترضاً بين الترديد في الدليل.

وأما قوله: { أصطفى البنات على البنين } فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه، وهذا يسمى المعارضة. وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخرُ الجدل معهم هو الدليلَ الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله: { أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادِقينَ }. فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم.

وقرأ الجمهور { تَذَكَّرُونَ } بتشديد الذال على أن أصله تتذكرون فأدغمت إحدى التاءين في الذال بعد قلبها ذالاً لقرب مخرجيهما. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتخفيف الذال على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً.