التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
١٥٨
-الصافات

التحرير والتنوير

عطف على جملة { ليقُولونَ } [الصافات: 151] أي شفَّعوا قولهم: { ولَدَ الله }[الصافات: 152]، فجعلوا بين الله وبين الجنّ نسباً بتلك الولادة، أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسباً.

و{ الجنّة }: الجماعة من الجن، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رَجْلَة، الطائفة من الرجال، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سَروات الجن، أي من فريقِ نساء من الجن من أشراف الجن، وتقدم في قوله تعالى: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة } في سورة [الأعراف: 184].

والنسب: القرابة العَمودية أو الأُفقية أي من الأطراف والكلام على حذف مضاف، أي ذوي نسب لله تعالى وهو نسب النبوءة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى، أي جعلوا لله تعالى نسباً للجِنّة وللجنة نسباً لله. وقوله: { بينه وبين الجِنَّة } يجوز أن يكون حالاً من { نَسَباً } أي كائناً بينه وبين الجنة، أي أن نسبه تعالى، أي نسله سبحانه ناشىء من بينه وبين الجن. ويجوز أن يكون متعلقاً بــــ{ جعلوا }، أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسباً له، أي جعلوا من ذلك نسباً يتولد له، فقوله: { بينه وبين الجنة نسباً } هو كقولك: بين فلان وفلانة بنُون، أي له منها ولها منه بنون، وهذا المعنى هو مراد من فسره بأن جعلوا الجن أصهاراً لله تعالى، فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثير، لأن هذا الإِطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغتررْ به. ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوّة والبنوّة، وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } إعادةً لما تقدم من قوله: { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله } [الصافات: 151 - 152] ومن قوله: { أم خلقنا الملائِكَة إناثا وهم شاهِدونَ } [الصافات:150].

ومن ذهب إلى أن المراد من { الجِنَّةِ } أصل الجِنّة وهو الشيطان وأن معنى الآية: أنهم جعلوا الله نسيباً للشيطان نسب الأخوة، تعالى الله عن ذلك. على أنه إشارة إلى قول الثَّنَوية من المجوس بوجود إلٰه للخير هو الله، وإلٰه للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إلٰه الخير (يَزْدَانَ) وإلٰه الشر (أَهْرُمُنْ) وقالوا: كان إلٰه الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إلٰه الشر هو (أهرمُن) وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله:

قال أناسٌ باطلٌ زعمهمفراقبوا الله ولا تزعُمُنْ
فَكَّر (يزدانُ) على غِرةفصيغ من تفكيره (أهرمُن)

وهذا الدين كان معروفاً عند بعض العرب في الجاهلية من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفاً بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات، ولأن الجِنّة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم.

وجملة { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } معترضة بين جملة { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } وبين جملة { سُبحانَ الله عمَّا يصِفُونَ } [الصافات: 159] و { جعلوا بينه } الخ... حال والواو حالية، وضمير { أنهم } عائد إلى المشركين أو إلى الجِنة، والوجهان مرادان فإن الفريقين معاقبان. والمحضَرون: المجلوبون للحضور، والمراد: محضَرون للعقاب، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد، والغالب في فعل الإِحضار أن يراد به إحضار سوء قال تعالى: { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } [الصافات: 57] ولذلك حذف متعلِّق «محضرون»، فأما الإِتيان بأحد لإِكرامه فيطلق عليه المجيء. والمعنى: أن الجن تعلم كذب المشركين في ذلك كذباً فاحشاً يُجازَون عليه بالإِحضار للعذاب، فجعل «محضرون» كناية عن كذبهم لأنهم لو كانوا صادقين ما عذبوا على قولهم ذلك. وظاهره أن هذا العلم حاصل للجن فيما مضى، ولعل ذلك حصل لهم من زمان تمكنهم من استراق السمع. ويجوز أن يكون من استعمال الماضي في موضع المستقبل لتحقيق وقوعه مثل { أتى أمر الله } [النحل:1]، أي ستعلم الجِنة ذلك يوم القيامة. والمقصود: أنهم يتحققون ذلك ولا يستطيعون دفع العذاب عنهم فقد كانوا يعبدون الجن لاعتقاد وجاهتهم عند الله بالصهر الذي لهم.