التفاسير

< >
عرض

ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧
إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ
١٨
وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠

التحرير والتنوير

أعقب حكاية أقوالهم من التكذيب ابتداء من قوله: { وقَالَ الكافرون هٰذا ساحِرٌ كذَّابٌ } [ص:4] إلى هنا، بأمرِ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوالهم إذ كان جميعها أذى: إما صريحاً كما قالوا: { سٰحِرٌ كذَّاب }وقالوا: { { إن هٰذا إلا اختلاقٌ } [ص:7] { إن هذا لشيء يُرادُ } [ص:6]، وإمّا ضِمناً وذلك ما في سائر أقوالهم من إنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بقولهم: { ربَّنَا عَجِل لنا قِطَّنَا } [ص: 16] من إثبات أن الإِلٰه واحد، ويشمل ما يقولونه مما لم يحك في أول هذه السورة.

وقوله: { واذكر عبدنا داوودَ } إلى آخره يجوز أن يكون عطفاً على قوله: { اصبر على ما يقولون } بأن أُتبع أمره بالصبر وبالائتساء ببعض الأنبياء السابقين فيما لَقُوه من الناس ثم كانت لهم عاقبة النصر وكشف الكرب. ويجوز أن يكون عطفاً على مجموع ما تقدّم عطْفَ القصة على القصة والغرض هو هو. وابتدىء بذكر داود لأن الله أعطاه مُلْكاً وسلطاناً لم يكن لآبائه ففي ذكره إيماء إلى أن شأن محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى العزة والسلطان، ولم يكن له سلف ولا جند فقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بحال داود عليه السلام.

وأدمج في خلال ذلك الإِيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى واتقاءِ مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة إبعاداً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن مهاوي الخطأ والزلَل وتأديباً له في أول أمره وآخره مما أن يتلقى بالعَذَل. وكان داود أيضاً قد صبر على ما لقِيَه من حسد شاول (طالوت) ملك إسرائيل إياه على انتصاره على جالوت ملك فلسطين.

فالمصدر المتصرِّف منه { واذكر عبدنا داوود } هو الذكر بضم الذال وهو التذكرُّ وليس هو ذِكر اللسان لأنه إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لتسليته وحفظ كماله لا لِيُعْلمه المشركين ولا لِيُعْلِمه المسلمين على أن كِلا الأمرين حاصل تبعاً حين إبلاغ المنزَّل في شأن داود إليهم وقراءته عليهم. ومعنى الأمر بتذكر ذلك تذكر ما سبق إعلام النبي صلى الله عليه وسلم به من فضائله وتذكير ما عسى أن يكون لم يعلمه مما يعلم به في هذه الآية.

ووصفُ داود بـــ { عَبْدَنَا } وصفُ تشريف بالإِضافة بقرينة المقام كما تقدم عند قوله: { إلا عباد اللَّه المخلصين } في سورة [الصافات: 40].

و { الأَيْد }: القوة والشدة، مصدر: آدَ يئيد، إذا اشتدّ وقَوي، ومنه التأييد التقوية، قال تعالى: { فآواكم وأيدكم بنصره } في سورة [الأنفال:26].

وكان داود قد أعطي قوة نادرة وشجاعة وإقداماً عجيبين وكان يرمي الحجر بالمقلاع فلا يخطىءُ الرميَّة، وكان يلوي الحديد ليصنعه سرداً للدروع بأصابعه، وهذه القوة محمودة لأنه استعملها في نصر دين التوحيد.

وجملة { إنَّه أوَّابٌ } تعليل للأمر بذكره إيماء إلى أن الأمر لقصد الاقتداء به، كما قال تعالى: { فبهداهم اقتده } [الأنعام:90]، فالجملة معترضة بين جملة { واذكُرْ } وجملةِ بيانها وهي { إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ معه.

والأوّاب: الكثير الأوْب، أي الرجوع. والمراد: الرجوع إلى ما أمر الله به والوقوف عند حدوده وتدارك ما فرط فيه. والتائب يطلق عليه الأوّاب، وهو غالب استعمال القرآن وهو مجاز ولا تسمّى التوبة أوباً، { وزبور } داود المسمى عند اليهود بـــ «المزامير» مشتمل على كثير من الاستغفار وما في معناه من التوبة.

وجملة { إنَّا سخرنا الجبال معه } بيان لجملة { واذكر عبدنا } أي اذكر فضائله وما أنعمنا عليه من تسخير الجبال وكيْت وكَيْتَ، و { معهُ } ظرف لــــ { يُسَبِحْنَ }، وقدم على متعلقه للاهتمام بمعيته المذكورة، وليس ظرفاً لــــ { سَخَّرْنَا } لاقتضائه، وتَقدم تسخير الجبال والطيرِ لداود في سورة الأنبياء.

وجملة { يُسَبِحْنَ } حال. واختير الفعل المضارع دون الوصف الذي هو الشأن في الحال لأنه أريد الدلالة على تجدد تسبيح الجبال معه كلما حضر فيها، ولِمَا في المضارع من استحضار تلك الحالة الخارقة للعادة. والتسبيح أصله قول: سبحان الله، ثم أطلق على الذكر وعلى الصلاة، ومنه حديث عائشة: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الصبح وإني لأُسبحها»، وليس هذا المعنى مراداً هنا لأن الجبال لا تصلي والطير كذلك ولأن داود لا يصلي في الجبال إذ الصلاة في شريعتهم لا تقع إلا في المسجد وأما الصلاة في الأرض فهي من خصائص الإِسلام.

والعشي: ما بعد العصر. يقال: عَشِيّ وعَشِيَّة. و { الإِشراق }: وقت ظهور ضوء الشمس واضحاً على الأرض وهو وقت الضحى، يقال: أشرقت الأرض ولا يقال: أشرقت الشمس، وإنما يقال: شَرَقَت الشمس وهو من باب قَعَد، ولذلك كان قياس المكان منه المَشرَق بفتح الراء ولكنه لم يجىء إلاّ بكسر الراء. ووقت طلوع الشمس هو الشروق ووقت الإِشراق الضحى، يقال: شَرقت الشمس ولمَّا تُشْرِق، ويقال: كُلَّما ذَرَّ شَارق، أي كلما طلعت الشمس. والباء في بـ { العَشِي } للظرفية فتعين أن المراد بالإِشراق وقت الإِشراق.

والمحشورة: المجتمعة حوله عند قراءته الزبور. وانتصب { مَحْشُورَةً } على الحال من { الطير }. ولم يؤت في صفة الطير بالحشر بالمضارع كما جيء به في { يُسبِحْنَ } إذ الحشر يكون دفعة فلا يقتضي المقام دلالة على تجدد ولا على استحضار الصورة.

وتنوين { كُلٌّ له أوَّابٌ } عوض عن المضاف إليه. والتقدير: كل المحشورة له أواب، أي كثير الرجوع إليه، أي يأتيه من مكان بعيد. وهذه معجزة له لأن شأن الطير النفور من الإِنس. وكلمة { كل } على أصل معناها من الشمول. و { أوَّابٌ } هذا غير { أوَّابٌ } في قوله: { إنه أوّاب } فلم تتكرر الفاصلة. واللام في { لَهُ أوَّابٌ } لام التقوية، وتقديم المجرور على متعلقه للاهتمام بالضمير المجرور.

والشد: الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه، فيكون لقصد النفع كما هنا، ويكون لقصد الضرّ كقوله: { واشدد على قلوبهم } في سورة [يونس:88].

فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه. وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت.

و { الحكمة }: النبوءة. والحكمة في الأعم: العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي، وقد اشتمل كتاب «الزبور» على حِكَم جمَّة.

و { فصل الخطاب }: بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان، ووصف القول بــــ (الفصل) وصف بالمصدر، أي فاصل. والفاصل: الفارق بين شيئين، وهو ضدّ الواصل، ويطلق مجازاً على ما يميز شيئاً عن الاشتباه بضده. وعطفه هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى: { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [النبأ:17].

والمعنى: أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء، وحسبك بكتابه «الزبور» المسمّى عند اليهود بـــ «المزامير» فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم.

وعن أبي الأسود الدؤلي: { فصل الخطاب } هو قولُه في خطبه «أما بعد» قال: وداود أول من قال ذلك، ولا أحسب هذا صحيحاً لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود. فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر، والإِضافة حقيقية. وأول من قال: «أما بعد» هو سحبان وائل خطيب العرب، وقيل: { فصل الخطاب } القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإِضافته إلى الخطاب.

واعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّاباً، وهو القائل: "إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل، وعَرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهباً فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحَمَام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة. وشدّ الله مُلك الإِسلام له، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل، وآتاه الحكمة، وآتاه فصل الخطاب قال: "أوتيت جوامع الكَلِم واختصر لي الكلام اختصاراً" بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته، قال تعالى في وصف القرآن: { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [الطارق: 13 - 14].