التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
٢
-الزمر

التحرير والتنوير

فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين.

فــــ { تَنزِيلُ } مصدر مراد به معناه المصدريّ لا معنى المفعول، كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإِضافة أن لا تكون بيانية.

وتنزيل: مصدر نزّل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجّماً. واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعلّلوا به قولهم: { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [الفرقان: 32]. وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى.

والتعريف في { الكِتٰبِ } للعهد، وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة. وأجرى على اسم الجلالة الوصف بــــ { العزيز الحكيمِ } للإِيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين، فيكون عزيزاً قال تعالى: { وإنه لكتاب عزيز } [فصلت: 41]، أي القرآن، عزيز غالب بالحجة لمن كذّب به، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق، وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه، ويكون حكيماً مثل صفة منزِّله.

والحكيم: إمّا بمعنى الحاكم، فالقرآن أيضاً حاكم على معارضيه بالحجة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى: { مصدقاً لمن بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [المائدة: 48].

وإمّا بمعنى: المحكِم المتقِن، فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ، وإما بمعنى الموصوف بالحكمة، فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزّله بها. وهذه معان مرادة من الآية فيما نرى، على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وبإعجازه العلمي، إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيّناه في المقدمة العاشرة.

وفي وصف { الحَكِيمِ } إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة { يؤتي الحكمة من يشاء } [البقرة: 269]. وفي هذا إرشاد إلى وجود التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله، قال تعالى: { سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [فصلت: 53].

ومعنى { العَزيزِ الحكيمِ } في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى: { فإن زللتم من بعد ما جاءئكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } في سورة [البقرة: 209].

وافتتاح جملة { إنَّا أنزلنا إليكَ الكتَابَ بالحقّ } بحرف (إنَّ) مراعى فيه ما استعمل فيه الخبر من الامتنان. فيحمل حرف (إنّ) على الاهتمام بالخبر. وما أريد به من التعريض بالذين أنكروا أن يكون منزّلاً من الله فيحمل حرف (إنّ) على التأكيد استعمالاً للمشترك في معنييه. ولما في هذه الآية من زيادة الإِعلان بصدق النبي المنزل عليه الكتاب جدير بالتأكيد لأن دليل صدقه ليس في ذاته بل هو قائم بالإِعجاز الذي في القرآن وبغيره من المعجزات، فكان مقضى التأكيد موجوداً بخلاف مقتضى الحال في قوله: { تَنزيلُ الكتاببِ من الله }.

فجملة { إنَّا أنزلنا إليك الكتابَ } تتنزل منزلة البيان لجملة { تَنزيلُ الكتابِ من الله }. وإعادة لفظ { الكِتَابِ } للتنويه بشأنه جرياً على خلاف مقتضى الظاهر بالإِظهار في مقام الإِضمار. وتعدية { أنزَلْنَا } بحرف الانتهاء تقدم في قوله: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } في أول [البقرة: 4].

والباء في { بالحق } للملابسة، وهي ظرف مستقرّ حالاً من { الكتابِ }، أي أنزلنا إليك القرآن ملابساً للحق في جميع معانيه { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [فصلت: 42].

وفرع على المعنى الصريح من قوله: { إنَّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحق } أن أمر بأن يعبد الله مخلصاً له العبادة. وفي هذا التفريع تعريض بما يناسب المعنى التعريضي في المفرّع عليه وهو أن المعرّض بهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين عليهم أن يدبَّروا في المعنى المعرض به.

وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكر بإفراده بالعبادة، وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعَمِه التي أنعم بها، فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56].

فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإِخلاص من قوله { مُخلِصاً له الدينَ }، فالمأمور به عبادة خاصة، ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملاً في معنى الأمر بالدوام عليها. ولذلك أيضاً لم يُؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله: { بل الله فاعبد } [الزمر: 66] لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإِخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يعبد غير الله. وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى: { بل الله فاعبد } في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلّة عالم.

والإِخلاص: الإِمْحاض وعدم الشوب بمغاير، وهو يشمل الإِفراد. وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإِخلاص، أي إفراد الله بالإِلٰهية. وأوثر الإِخلاص هنا لإِفادة التوحيد وأخصَّ منه وهو أن تكون عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى: { قُلْ مَا أسْئَلُكُمْ عَلَيهِ مِن أجْرٍ } [ص: 86].

والدين: المعاملة. والمراد به هنا معاملة المخلوق ربّه وهي عبادته. فالمعنى: مخلصاً له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره. وانتصب { مُخلصاً } على الحال من الضمير المستتر في أعبد.

ولما أفاد قوله: { مُخلصاً له الدين } معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتضٍ لتقديم مفعول { أعبد الله }على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله: { مخلصاً له الدين }، وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رَأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيصَ، وتضعيفِه لاستدلال أيمة المعاني بقوله تعالى: { بل الله فاعبد } آخر السورة [66] بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود { فاعبد الله }، قال في «إيضاح المفصل» في شرح قول صاحب «المفصل» في الديباجة «الله أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية»، الله أحمد على طريقة { إياك نعبد } [الفاتحة: 5] تقديماً للأهم، وما قيل: إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحْو { بل الله فاعبد } [الزمر: 66] ضعيف لورود { فاعبد الله } ا هــ. ونقل عنه أنه كتب في حاشيته على الإِيضاح هنالك قوله: (لا دليل فيه على الحصر فإن المعبودية من صفاته تعالى الخاصة به، فالاختصاص مستفاد من الحال لا من التقديم) ا هــــ.

وهو ضغث على إبَّالَة فإنه لم يقتصر على منع دليل شَهد به الذوق السليم عند أيمة الاستعمال وعلى سند منعه بتوهمه أن التقديم الذي لوحظ في مقام يجب أن يلاحظ في كل مقام، كأنَّ الكلام قد جُعل قوالب يؤتى بها في كل مقام، وذلك ينبو عنه اختلاف المقامات البلاغية، حتى جعل الاختصاص بالعبادة مستفاداً من القرينة لا من التقديم، كأن القرينة لو سلم وجودها تمنع من التعويل على دِلالة النطق.