التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١
-الزمر

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي انتُقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإِسلام، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى: { فاعبد اللَّه مخلصاً له الدين } [الزمر: 2] إلى هنا، فهذا تمهيد لقوله: { أفَمَن شَرَحَ الله صَدرهُ للإسلامِ } [الزمر: 22] إلى قوله: { ذلِكَ هُدَى الله يهْدِي به من يشاءُ } [ الزمر: 23] فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله. وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها: فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره، ونافع وضار، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين. وأما قوله تعالى: { ثُمَّ يَجْعلُهُ حُطاماً } فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار. وفي تعقيب هذا بقوله: { { أفَمَن شَرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ } [الزمر: 22] إلى قوله: { وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23] إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل.

وقريب من تمثيل هذه الآية ما في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً فذلك مَثَل من فقُه في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به" . ويجوز أن يكون المعنى أصالةً وإدماجاً على عكس ما بيّنا، فيكونَ عَوْداً إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالالٰهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة، فيكونَ قوله تعالى: { ألم ترَ أن الله أنزل من السماءِ ماءً } إلى قوله: { إن في ذلك لذكرى لأولي الألبابِ } متصلاً بقوله تعالى: { خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثمَّ جعَلَ منها زَوجَهَا } [ الزمر: 6] المتصل بقوله تعالى: { خَلَق السماواتِ والأرض بالحقِ يُكورُ الليل على النَّهار } [ الزمر: 5]، ويكونَ ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجاً في هذا الاستدلال. وعلى كلا الوجهين أُدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية.

والكلام استفهام تقريري، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطباً معيَّناً. والرؤية بصرية.

وقوله: { أنزلَ مِن السماءِ ماءً } تقدم نظيره في قوله: { وهو الذي أنزل من السماء ماء } في سورة [الأنعام: 99].

و { سلكه }أدخله، أي جعله سالكاً، أي داخلاً، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى: { وسلك لكم فيها سبلاً } في سورة [طه: 53]، وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصراً ومتعدّياً، وهذا الإِدخال دليل ثان.

و { يَنابيعَ } جمع ينبوع وهو العين من الماء، تقدم في قوله تعالى: { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } في سورة [الإِسراء: 90]. وانتصب { ينابيعَ } على الحال من ضمير { مَاءً }. وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله.

وعطف بــــ { ثم } قوله: { ثُمَّ يُخرجُ بهِ زَرعاً } لإِفادة التراخي الرتبي بحرف { ثم } كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر. وهذا الإِخراج دليل رابع.

والألوان: جمع لون، واللون: كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء، وتقدم في سورة فاطر [27، 28]. واختلاف ألوان الزرع بالمعنى الأول أن لكل نوع من الزرع لوناً ولنَوْرها ألواناً ولكل صنف من الزرع ألوان مختلفة في أطوار نباته وبلوغه أشُدّه، وهذا الاختلاف مع اتّحاد الأرض التي تنبت فيها واتحاد الماء الذي نبت به آية خامسة على عظيم القدرة والانفراد بالتصرف.

ومعنى { يهيج } يغلظ ويرتفع. وحقيقة الهياج: ثورة الإنسان أو الحيوان، ويستعار الهياج لشدة الشيء من غير الحيوان يقال: هاجت ريِح، ومنه هياج الزرع في الآية لأن الزرع تطول سوقه وسنابله فيتم جفافه فإذا تحرك بمرور الريح عليه صار له حفيف وخشخشة سواء في ذلك الحَب والكَلأ وهذا الطور آية سادسة على الوحدانية.

والحطام: المحطوم، أي المكسور المفتوت، ووزن فُعال (بضم الفاء) يدل على المفعول كالفُتات والدُقاق، ومثله الفُعالة كالصُبابة والقُلامة والقُمامة. والمعنى: أنه يبلغ من اليبس إلى حد أن يتحطم ويتكسر بحك بعضه بعضاً وتساقُطه وكسر الريح إياه. وهذا الطور آية سابعة على قدرة الله. وجميعها آيات على دقة صنعه وكيف أودع الأطوار الكثيرة في الشيء الواحد يخلف بعضها بعضاً من طور وجوده إلى طور اضمحلاله.

وجملة { إنَّ في ذلك لذكرى لأُولِى الألباب } مبيّنة للاستفهام التقريري وفذلكة للأطوار المستفهم عنها، فالإِشارة بذلك إلى المذكور من الإِنزال إلى آخر الأطوار.

والمراد: ذكرى بالدلالة على ما يغفل عنه العاقل. ويجوز أن تكون الذكرى لما يذهل عنه العاقل مما تشتمل عليه هذه الأحوال من مبدئها إلى منتهاها. فمن ذلك أنها تصلح مثالاً لتقريب البعث فإن إنزال الماء على الأرض وإنباتها بسببه أمر يتجدد بعد أن صار ما عليها من النبات حطاماً، وتخللت زراريعه الأرض فنبتت مرة أخرى بنزول الماء، فكذلك يعود الإِنسان بعد فنائه كما أشار إليه قوله تعالى: { واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } [نوح: 17، 18] فتتضمن الآية إدماج تقريب البعث وإمكانه مع الاستدلال على انفراد الله تعالى بالتصرف، ومن ذلك أنها تصلح مثلاً للحياة الدنيا كما في آية سورة يونس وفي سورة الكهف، والمقصود: تشبيه الحالة بالحالة فلا يُعتبر التجوز في مفردات هذا المركب بأن يطلب لكل طور من أطوار الدنيا طور يشتبه به من أطوار النبات. ومنها أنها مثل لأطوار الإِنسان من طور النطف إلى الشباب إلى الشيخوخة ثم الهلاك، والمقصود تشبيه الحالة بالحالة مع إمكان توزيع تشبيه كل طور من أطوار الحالة المشبهة بطور من أطوار الحالة المشبه بها وهو أكمل أنواع التمثيلية.

و{ أولي الألبَابِ } هم الذين ينتفعون بألبابهم فيهتدون بما نصب لهم من الأدلة، كما تقدم آنفاً في قوله: { إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبٰبِ } [الزمر: 9]، وهم الذين استدلوا فآمنوا. وفي هذا تعريض بأن الذين لم يستفيدوا من الأدلة بمنزلة مَن عدموا العقول.