التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٢٤
-الزمر

التحرير والتنوير

{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }.

الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي: { ولقدَ ضَربْنَا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ من كُل مَثَلٍ } [الزمر: 27].

وجعلها المفسرون تفريعاً على جملة { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ } [الزمر: 23] بدلالة مجموع الجملتين على فريقين: فريق مهتد، وفريق ضالٍ، ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي. وجعل المفسرون في الكلام حذفاً، وتقدير المحذوف: كمن أمن العذاب أو كمن هو في النعيم. وجعلوا الاستفهام تقريرياً أو إنكارياً، والمقصود: عدم التسوية بين من هو في العذاب وهو الضالّ ومن هو في النعيم وهو الذي هداه الله، وحُذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قوله: { أفمَنْ حقَّ عليهِ كلمةُ العذابِ } [ الزمر: 19] وقوله: { أفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلاَمِ } [ الزمر: 22]، والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر، وتقديره: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه، وهو كقوله تعالى: { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } [محمد: 14]. والمعنى: أن الذين اهتدوا لا ينالهم العذاب.

ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعاً على جملة { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23] تفريعاً لتعيين مَا صْدِق (مَنْ) في قوله: { ومن يُضْلِل الله فما له من هَادٍ } ويكون { من يتقي }خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب، والاستفهام للتقرير.

والاتقاء: تكلف الوقاية وهي الصون والدفع، وفعلها يتعدى إلى مفعولين، يقال: وقى نفسه ضربَ السيف، ويتعدّى بالباء إلى سبب الوقاية، يقال: وقى بترسه، وقال النابغة:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطهفتناولْته واتَّقتنا باليد

وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يُوقى به شيء من الجسد، إذ الوجه أعزّ ما في الجسد وهو يُوقَى ولا يُتقى به فإن من جبلِّة الإِنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفاً عليه، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملاً كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التلميح، فكأنه قيل: من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه، وقريب منه قوله تعالى: { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } [الكهف: 29].

و { سُوءَ العَذَابِ } منصوب على المفعولية لفعل { يَتَّقِي }. وأصله مفعول ثان إذ أصله: وَقَى نفسه سوءَ العذاب، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعدياً إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولاً ثانياً.

{ وَقِيلَ لِلظَّـلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تكسبون }

يجوز أن يكون { وَقِيلَ } عطفاً على الصلة. والتقدير: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، وقيل لهم فإن (مَن) مراد بها جمْع، والتعبير بــــ { الظالمين } إظهار في مقام الإِضمار للإِيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم، أي شركهم.

والمعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم: ذُوقوا العذاب.

ويجوز أن يكون المراد بــــ{ الظالمين } جميع الذين أشركوا بالله من الأمم غير خاص بالمشركين المتحدث عنهم، فيكون { الظالمين } إظهاراً على أصله لقصد التعميم، فتكون الجملة في معنى التذييل، أي ويقال لهؤلاء وأشباههم، ويظهر بذلك وجه تعقيبه بقوله تعالى: { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } [الزمر: 25].

وجاء فعل { وَقِيلَ } بصيغة المضيّ وهو واقع في المستقبل لأنه لتحقق وقوعه نزل منزلة فعل مضَى. ويجوز أن يكون جملة { وقِيلَ للظٰلِمِينَ } في موضع الحال بتقدير (قد) ولذلك لا يحتاج إلى تأويل صيغة المضيّ على معنى الأمر المحقق وقوعه.

والذوق: مستعار لإِحساس ظاهر الجسد لأن إحساس الذوق باللسان أشد من إحساس ظاهر الجلد فوجه الشبه قوة الجنس.

والمذوق: هو العذاب فهو جزاء مَا اكتسبوه في الدنيا من الشرك وشرائعه، فجعل المذوق نفس ما كانوا يكسبون مبالغة مشيرة إلى أن الجزاء وفق أعمالهم وأن الله عادل في تعذيبهم.

وأوثر { تَكْسِبُونَ } على (تعملون) لأن خطابهم كان في حال اتقائهم سوءَ العذاب ولا يخلو حال المعذّب من التبرم الذي هو كالإِنكار على معذِّبه. فجيء بالصلة الدالة على أن ما ذاقوه جزاء ما اكتسبوه قطعاً لتبرمهم.