التفاسير

< >
عرض

وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦١
-الزمر

التحرير والتنوير

عطف على جملة { ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [الزمر: 60] إلى آخرها، أي وينجي الله الذين اتقوا من جهنم لأنهم ليسوا بمتكبرين. وهذا إيذان بأن التقوى تنافي التكبر لأن التقوى كمال الخُلق الشرعي وتقتضي اجتناب المنهيات وامتثال الأمر في الظاهر والباطن، والكبرَ مرض قلبي باطني فإذا كان الكبر ملقياً صاحبه في النار بحكم قوله: { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } [الزمر: 60] فضد أولئك ناجون منها وهم المتقون إذ التقوى تحول دون أسباب العقاب التي منها الكبر، فالذين اتقوا هم أهل التقوى وهي معروفة، ولذلك ففعل { اتَّقوا } منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول.

والمفازة يجوز أن تكون مصدراً ميمياً للفوز وهو الفلاح، مثل المتاب وقوله تعالى: { إن للمتقين مفازاً } [النبأ: 31]، ولحاق التاء به من قبيل لحاق هاء التأنيث بالمصدر في نحو قوله تعالى: { ليس لوقعتها كاذبة } [الواقعة: 2]. وتقدم ذلك في اسم سورة الفاتحة وعند قوله تعالى: { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } في [آل عمران: 188]، والباء للملابسة، أي متلبسين بالفوز أو الباء للسببية، أي بسبب ما حصلوا عليه من الفوز. ويجوز أن تكون المفازة اسماً للفلاة، كما في قول لبيد:

لِوِرْدٍ تقلص الغيطان عنهيبذ مفازة الخِمس الكمال

سميت مفازة باسم مكان الفوز، أي النجاة وتأنيثها بتأويل البقعة، وسموها مفازة باعتبار أن من حل بها سلم من أن يلحقه عدوّه، كما قال العُديل:

ودون يد الحجاج من أن تنالنيبساطٌ بأيدي أنا عجات عريض

وقول النابغة:

تدافع الناس عنا حين نركبهامن المظالم تدعى أمّ صبار

وعلى هذا المعنى فالباء بمعنى (في). والمفازة: الجنة. وإضافة مفازة إلى ضميرهم كناية عن شدة تلبسهم بالفوز حتى عُرف بهم كما يقال: فاز فوز فلان.

وقرأ الجمهور { بمفازتهم } بصيغة المفرد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { بمَفَازاتهم } بصيغة الجمع وهي تجري على المعنيين في المفازة لأن المصدر قد يجمع باعتبار تعدد الصادر منه، أو باعتبار تعدد أنواعه، وكذلك تعدد أمكنة الفوز بتعدد الطوائف، وعلى هذا فإضافة المفازة إلى ضمير { الذين اتقوا } لتعريفها بهم، أي المفازة التي علمتم أنها لهم وهي الجنة، وقد عُلم ذلك من آيات وأخبار منها قوله تعالى: { إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعناباً * وكواعب أتراباً } [النبأ: 31- 33].

وجملة { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } مبيِّنة لجملة { وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم } لأن نفي مسّ السوء هو إنجاؤهم ونفي الحزن عنهم نفي لأثر المس السوء. وجيء في جانب نفي السوء بالجملة الفعلية لأن ذلك لنفي حالة أهل النار عنهم، وأهل النار في مسَ من السوء متجددٍ. وجيء في نفي الحزن عنهم بالجملة الاسمية لأن أهل النار أيضاً في حزن وغم ثابت لازم لهم.

ومن لطيف التعبير هذا التفنن، فإن شأن الأسواء الجسدية تجدد آلامها وشأن الأكدار القلبية دوام الإحساس بها.