التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٥
بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٦
-الزمر

التحرير والتنوير

تأييد لأمره بأن يقول للمشركين تلكَ المقالة مقالةً إنكار أن يطمعوا منه في عبادة الله، بأنه قول استحقوا أن يُرمَوا بغلظته لأنهم جاهلون بالأدلة وجاهلون بنفس الرسول وزكائها. وأعقب بأنهم جاهلون بأن التوحيد هو سنة الأنبياء وأنهم لا يتطرق الإِشراك حوالي قلوبهم، فالمقصود الأهم من هذا الخبر التعريض بالمشركين إذ حاولوا النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتراف بإلٰهية أصنامهم.

والواو عاطفة على جملة { قُلْ } [الزمر: 64]. وتأكيدُ الخبر بلام القسم وبحرف (قد) تأكيد لما فيه من التعريض للمشركين.

والوحي: الإِعلام من الله بواسطة الملَك. والذين من قبله هم الأنبياء والمرسلون. فالمراد القبلية في صفة النبوءة فـ { الذين من قبلك } مراد به الأنبياء.

وجملة { لئن أشركت ليحبطن عملك } مبيّنة لمعنى أُوحي كقوله تعالى: { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } [طه: 120].

والتاء في { أشْرَكت } تاء الخطاب لِكل من أوحي إليه بمضمون هذه الجملة من الأنبياء فتكون الجملة بياناً لما أوحي إليه وإلى الذين من قبله. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فتكون الجملة بياناً لجملة { أُوحِي إليك }، ويكون { وإلى الذين من قبلِكَ } اعتراضاً لأن البيان تابع للمبين عمومه ونحوه. وأيًّا مَّا كان فالمقصود بالخطاب تعريض بقومِ الذي أوحى إليه لأن فرض إشراك النبي صلى الله عليه وسلم غير متوقَّع. واللام في { لَئِن أشركت } موطئة للقسم المحذوف دالة عليه، واللام في { لَيَحْبَطن } لام جواب القسم.

والحَبط: البطلان والدحض، حَبِط عملُه: ذهب باطلاً. والمراد بالعمل هنا: العملَ الصالح الذي يرجى منه الجزاء الحسن الأبدي.

ومعنى حَبطه: أن يكون لغواً غير مُجازى عليه. وتقدم حكم الإِشراك بعد الإِيمان، وحكم رجوع ثواب العمل لصاحبه إن عاد إلى الإِيمان بعد أن أَبطل إيمانه عند قوله تعالى: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمتْ وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } في سورة [البقرة: 217].

ثم عطف عليه أن صاحب الإشراك من الخاسرين، شبه حاله حينئذٍ بحال التاجر الذي أخرج مالاً ليربح فيه زيادةَ مال فعاد وقد ذهب ماله الذي كان بيده أو أكثرُه، فالكلامُ تمثيل لحال من أشرك بعد التوحيد فإن الإِشراك قد طلب به مبتكروه زيادة القرب من الله إذ قالوا: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر: 3] { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه } [يونس: 18] فكان حالهم كحال التاجر الذي طلب الزيادة على ما عنده من المال ولكنه طلب الربح من غير بابه، فباء بخسرانه وتبابه. وفي تقدير فرض وقوع الإشراك من الرسول والذين مَن قبله مع تحقق عصمتهم التنبيهُ على عظم أمر التوحيد وخطر الإشراك ليعلم الناس أن أعلى الدرجات في الفضل لو فرض أن يأتي عليها الإِشراك لما أبقى منها أثراً ولدحضها دحضاً.

و { بل } لإِبطال مضمون جملة { لئِن أشركت } أي بل لا تشرك، أو لإِبطال مضمون جملة { أفغير الله تأمروني أعبُدُ }.

والفاء في قوله: { فاعبد } يظهر أنها تفريع على التحذير من حبط العملِ ومن الخسران فحصل باجتماع { بَل } والفاء، في صدر الجملة، أَنْ جمعت غرضين: غرضِ إبطال كلامهم، وغرضِ التحذير من أحوالهم، وهذا وجه رشيق.

ومقتضى كلام سيبويه: أن الفاء مفرِّعة على فعل أمر محذوف يقدر بحسب المقام، وتقديره: تَنبَّه فاعْبُد الله (أي تنبه لمكرهم ولا تغترِرْ بما أمروك أن تعبد غير الله) فحذف فعل الأمر اختصاراً فلما حذف استنكر الابتداء بالفاء فقدموا مفعول الفعل الموالي لها فكانت الفاء متوسطة كما هو شأنها في نسج الكلام وحصل مع ذلك التقديمِ حصرٌ. وجعل الزمخشري والزجاج الفاء جزاءية دالة على شرط مقدر (أي يدل عليه السِياق، تقديره: إن كنت عاقلاً) مقابل قوله: { أيها الجاهلون } [الزمر: 64] فاعبد الله، فلما حذف الشرط (أي إيجازاً) عوض عنه تقديم المفعول وهو قريب من كلام سيبويه. وعن الكسائي والفراء الفاء مؤذنة بفعل قبلها يدل عليه الفعل الموالي لها، والتقدير: الله أعبُدْ فاعْبُد، فلما حذف الفعل الأول حذف مفعول الفعل الملفوظ به للاستغناء عنه بمفعول الفعل المحذوف.

وتقديم المعمول على { فاعبد } لإِفادة القصر، كما تقدم في قوله: { قل اللَّه أعبد } في هذه السورة [14]، أي أعبد الله لا غيره، وهذا في مقام الرد على المشركين كما تضمنه قوله: { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } [الزمر: 64].

والشكر هنا: العمل الصالح لأنه عطف على إفراد الله تعالى بالعبادة فقد تمحض معنى الشكر هنا للعمل الذي يُرضي الله تعالى والقول عموم الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ولمن قبله أو في خصوصه بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقاس عليه الأنبياء كالقول في { لئِن أشركت ليحبطن عملك }.