التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٥
-النساء

التحرير والتنوير

عطف على قوله: { وآتوا النساء صدقاتهن } [النساء: 4] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله: { { وآتوا اليتامى أموالهم - وآتوا النساء صدقاتهن } [النساء: 2، 4]. أو عطف على قوله: { وآتوا اليتامى } وما بينهما إعتراض.

والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله، والحال التي يؤتى فيها مالَه، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم، لأنّ الناس أحرص على ضدّه، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم.

والخطاب في قوله: { ولا تؤتوا السفهاء } كمثل الخطاب في { وآتوا اليتامى - وآتوا النساء } هو لعموم الناس المخاطبين بقوله: { يا أيها الناس اتّقوا ربكم } [الحج: 1] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال.

والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة، فيكون مقابلاً لقوله: { وآتوا اليتامى } لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع. ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطراداً للمناسبة، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعاً. وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى: { { إلا من سفه نفسه } في سورة البقرة (130).

والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله: وارزقوهم فيها } وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ (يا أيّها الناس) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة.

وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها. وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة، لأنّ الأموال في يد الأولياء، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة. وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم، وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري. وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين. وقارب ابن العرب إذ قال: «لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك» وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن. وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا ـــ يا أصحاب الأموال ـــ أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم، وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة.

وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله: { التي جعل اللَّه لكم قياماً } فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي، وإيضاحاً لمعنى الإضافة، فإنّ (قيما) مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال: مثل عِوذَ بمعنى عياذ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر، وقلّة فِعَل فيها، وقيم من غير الغالب. كذا قرأه نافع، وابن عامر: «قيما» بوزن فِعَل، وقرأه الجمهور «قياماً»، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً وعلى القراءتيْن فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء:

فإنَّمَا هي إقْبَال وإدْبَار

والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس. وقيل: قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم.

ومعنى قوله: { وارزقوهم فيها واكسوهم } واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية { ارزقوهم واكسوهم } بـ (مِن) إلى تعديتها بـ (في) الدالّة على الظرفية المجازية، على طريقة الاستعمال في أمثاله، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل: تارة من عينه، وتارة من ثمنه، وتارة من نتاجه، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً. وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي:

نُحابِي بها أكفاءنَا ونُهيِنَهاونَشْرَب في أثْمَانِها ونُقامِر

يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم، أي نشرب بأثمانها ونقامر، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى (في)، واهتدى إليه صاحب «الكشاف» بعض الاهتداء فقال: أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال. فقوله: «لا من صلب المال» مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال.

وإنّما قال: { وقولوا لهم قولاً معروفاً } ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي، والتي من مال المعطَى، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون، لقلّة تدبيره، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة، فلا ينبغي أن يشتم عليه، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب، فقد يظهر عليه، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّىء الكلام، ولا يجيبوهم بما يسوء، بل يعظون المحاجير، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم، وحفظه حفظ لمصالحهم، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال:

إذا نُهِي السفيهُ جرى إليهوخالف والسفيه إلى خلاف

وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله. وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه.