التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
-النساء

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي للتعجيب من حال هؤلاء، ناسب الانتقال إليه من مضمون جملة: { { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [النساء: 59]. والموصول مراد به قوم معروفون وهم فريق من المنافقين الذين كانوا من اليهود وأظهروا الإسلام لقوله: { رأيت المنافقين يصدّون }، ولذلك قال: { يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك }. وقد اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية اختلافاً متقارباً: فعن قتادة والشعبي أنّ يهودياً اختصم مع منافق اسمه بشر فدعا اليهوديُّ المنافقَ إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنّه لا يأخذ الرشوة ولا يجورُ في الحكم، ودعا المنافقُ إلى التحاكم عند كاهن من جُهينة كان بالمدينة.

وعن ابن عباس أنّ اليهودي دَعا المنافق إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ المنافقَ دعا إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي وانصرفا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق: لا أرضى، انطلِق بنا إلى أبي بكر، فحكم أبو بكر بمثل حكم رسول الله، فقال المنافق: انطلق بنا إلى عمر، فلمّا بلغ عمر، وأخبره اليهودي الخبر وصدَّقه المنافق، قال عمر: رويدكما حتّى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه ثم ضرب به المنافق حتّى بَرَد، وقال: هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء الله ورسوله. فنزلت الآية وقال جبريل: إن عمر فرّق بين الحقّ والباطل فلقبّه النبي صلى الله عليه وسلم «الفاروق».

وقال السدّي: كان بين قُريظة والخزرج حِلف، وبين النَّضير والأوس حلف، في الجاهلية وكانت النضير أكثر وأشرف، فكانوا إذا قتَل قُرَظِيُّ نضيرياً قُتل به وأخذ أهل القتيل دية صاحبهم بعد قتل قاتله، وكانت الدية مائة وسق من تمر، وإذا قتل نضيريّ قرظيّا لم يُقتل به وأعطى ديته فقط: ستّين وسقاً. فلمّا أسلم نفر من قريظة والنضير قتل نضيريّ قُرظيّا واختصموا، فقالت النضير: نعطيكم ستّين وسقاً كما كنّا اصطلحنا في الجاهلية، وقالت قريظة: هذا شيء فعلتموه في الجاهلية لأنّكم كثرتم وقللنا فقهرتمونا، ونحن اليوم إخوَة وديننا ودينكم واحد، فقال بعضهم ــــ وكان منافقاً: انطلقوا إلى أبي بُردة ــــ وكان أبو بردة كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فيه وقال المسلمون: لا بل ننطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية. (وأبو بردة ــــ بدال بعد الراء ــــ على الصحيح، وكذلك وقع في مفاتيح الغيب وفي الإصابة لابن حجر، ووقع في كتب كثيرة بزاي بعد الراء وهو تحريف اشتبه بأبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد ولم يكن أبو برزة كاهناً قط). ونُسب أبو بردة الكاهن بالأسلمي، وذكر بعض المفسّرين: أنّه كان في جُهيْنة. وبعضهم ذكر أنّه كان بالمدينة. وقال البغوي عن جابر بن عبد الله: «كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جُهينة وواحد في أسلم، وفي كلّ حيّ واحد كهّانٌ».

وفي رواية عكرمة أنّ الذين عناهم الله تعالى ناس من أسلم تنافروا إلى أبي بردة الأسلمي، وفي رواية قتادة: أنّ الآية نزلت في رجلين أحدهما اسمه بشر من الأنصار، والآخر من اليهود تدَارءا في حقّ، فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنّه يقضي بالحقّ. ودعاه الأنصاري إلى التحاكم للكاهن لأنّه علم أنّه يرتشي، فيقضي له، فنزلت فيهما هذه الآية. وفي رواية الشعبي مثل ما قال قتادة، ولكنّه وصف الأنصاري بأنّه منافق. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنّ الخصومة بين منافق ويهودي، فقال اليهودي «لننطلق إلى محمد» وقال المنافق «بل نأتي كعبَ بن الأشرف اليهودي» وهو الذي سَمَّاه الله الطاغوت.

وصيغة الجمع في قوله: { الذين يزعمون } مرَاد بها واحد. وجيء باسم موصول الجماعة لأنّ المقام مقام توبيخ، كقولهم: ما بَال أقوام يقولون كذا، ليشمل المقصودَ ومن كان على شاكلته. والزعم: خبر كاذبٌ، أو مشوب بخطأ، أو بحيث يتّهمه الناس بذلك، فإنّ الأعشى لمّا قال يمدح قيساً بن معد يكرب الكندي:

ونُبِّئْتُ قَيْساً ولم أبْلُهُكما زَعموا خَيْرَ أهل اليَمَنْ

غضب قيس وقال: «وما هو إلاّ الزعم»، وقال تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } [التغابن: 7]، ويقول المحدّث عن حديث غريب فزعم فلان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، أي لإلقاء العهدة على المخبر، ومنه ما يقع في كتاب سيبويه من قوله زعم الخليل، ولذلك قالوا: الزعم مطية الكذب.

ويستعمل الزعم في الخبر المحقّق بالقرينة، كقوله:

زعم العواذل أنّني في غمرةصَدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي

فقوله { صدقوا } هو القرينة، ومضارعه مثلّث العَيْننِ، والأفصح فيه الفتح.

وقد كان الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين، كما هو الظاهر، فإطلاق الزعم على إيمانهم ظاهر.

وعطف قوله { وما أنزل من قبلك } لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود، وقد دخل المعطوف في حَيّز الزعم فدلّ على أنّ إيمانهم بما أنزل من قبل لم يَكن مطّرداً، فلذلك كان ادّعاؤهم ذلك زعمْا، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقّا، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهّان، وشريعة موسى ــــ عليه السلام ــــ تحذّر منهم.

وقوله { يريدون } أي يحبّون محبّة تبعث على فعل المحبوب.

والطاغوت هنا هم الأصنام، بدليل قوله: { وقد أمروا أن يكفروا به }، ولكن فسّروه بالكاهن، أو بعظيم اليهود، كما رأيت في سبب نزول الآية، فإذا كان كذلك فهو إطلاق مجازي بتشبيه عظيم الكفر بالصنم المعبود لغلوّ قومه في تقديسه، وإمّا لأنّ الكاهن يُتَرجم عن أقوال الصنم في زعمه، وقد تقدّم اشتقاق الطاغوت عند قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51] من هذه السورة. وإنّما قال { ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً } أي يحبّ ذلك ويحسنّه لهم، لأنّه ألقى في نفوسهم الدعاء إلى تحكيم الكهّان والانصراف عن حكم الرسول، أو المعنى: يريد أن يضلّهم في المستقبل بسبب فعلتهم هذه لولا أن أيقظهم الله وتابوا ممّا صنعوا.

والضلال البعيد هو الكفر، ووصفه بالبعيد مجاز في شدّة الضلال بتنزيله منزلة جنس ذي مسافة كانَ هذا الفرد منه بالغاً غاية المسافة، قال الشاعر:

ضيّعت حزمي في إبعادي الأملا

وقوله { وإذا قيل لهم تعالوا } الآية أي إذا قيل لهم احضُروا أو إيتوا. فإنّ (تعال) كلمة تدلّ على الأمر بالحضور والإقبال، فمفادها مفاد حرف النداء إلاّ أنّها لا تنبيه فيها. وقد اختلف أيمّة العربية في أنّه فعل أو اسمُ فعلٍ، والأصحّ أنّه فعل لأنّه مشتقّ من مادّة العلوّ، ولذلك قال الجوهري في «الصحاح» «والتعالي الارتفاع»، تقول منه، إذا أمرت: «تعال يا رجل»، ومثله في «القاموس»، ولأنّه تتّصل به ضمائر الرفع، وهو فعل مبني على الفتح على غير سنّة فِعل الأمر، فذلك البناء هو الذي حدا فريقاً من أهل العربية على القول بأنّه اسم فعل، وليس ذلك القول ببعيد، ولم يَرِد عن العرب غير فتح اللام، فلذلك كان كسر اللام في قول أبي فِراس:

أيا جارتَا ما أنصف الدهر بينناتعالي أقاسمك الهموم تَعالي

بكسر لام القافية المكسورة، معدوداً لحناً.

وفي «الكشّاف» أنّ أهل مكة ــــ أي في زمان الزمخشري ــــ يقولون تعالِي للمرأة. فذلك من اللحن الذي دخل في اللغة العربية بسبب انتشار الدُّخلاء بينهم.

ووجه اشتقاق تعالَ من مادّة العلوّ أنّهم تخيّلوا المنادي في علوّ والمنادي (بالفتح) في سفل، لأنّهم كانوا يجعلون بيوتهم في المرتفعات لأنّها أحصن لهم، ولذلك كان أصله أن يدلّ على طلب حضور لنفع. قال ابن عطية في تفسير في قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } في سورة المائدة (104): «تعال نداء ببرّ، هذا أصله، ثم استعمل حيث البرّ وحيث ضدّه». وقال في تفسير آية النساء: «وهي لفظة مأخوذة من العلوّ لمّا استعملت في دعاء الإنسان وجلبه صيغت من العلوّ تحسيناً للأدب كما تقول: ارتفع إلى الحقّ ونحوه». وأعلم أنّ تعال لمّا كانت فعلاً جامداً لم يصحّ أن يصاغ منه غير الأمر، فلا تقول: تعاليت بمعنى حضرت، ولا تنهى عنه فتقول: لا تتعال. قال في «الصحاح» «ولا يجوز أن يقال منه تعاليت ولا ينهى عنه». وفي «الصحاح» عقبه «وتقول: قد تعاليت وإلى أي شيء أتعالى» يعني أنّه يتصرّف في خصوص جواب الطلب لمن قال لك تعال، وتبعه في هذا صاحب «اللسان» وأغفل العبَارة التي قبله، وأمّا صاحب «تاج العروس» فربما أخطأ إذ قال: «قال الجوهري: ولا يجوز أن يقال منه: تعاليت وإلى أي شيء أتعالى» ولعلّ النسخة قد وقع فيها نقص أو خطأ من الناسخ لظنّه في العبارة تكريراً، وإنّما نبّهت على هذا لئلاّ تقع في أخطاء وحيرة.

و(تعالوا) مستعمل هنا مجازاً، إذ ليس ثمّة حضور وإتيان، فهو مجاز في تحكيم كتاب الله وتحكيم الرسول في حضوره، ولذلك قال: { إلى ما أنزل الله } إذ لا يحكم الله إلاّ بواسطة كلامه، وأمّا تحكيم الرسول فأريد به تحكيم ذاته لأنّ القوم المخبر عنهم كانوا من المنافقين وهم بالمدينة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم و(صدودا) مفعول مطلق للتوكيد، ولقصد التوصّل بتنوين { صدودا } لإفادة أنّه تنوين تعظيم.