التفاسير

< >
عرض

رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ
١٥
يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ
١٦
-غافر

التحرير والتنوير

{ رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَـٰرِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شيء }.

{ رفيعُ الدرجات } خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله: { فادعوا الله } [غافر: 14] وليس خبراً ثانياً بعد قوله: { { هُو الَّذي يُريكم آياته } [غافر: 13] لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف كقول عبد الله بن الزَّبِير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب:

سأَشكُر عَمْراً إِنْ تَراختْ منيتيأَيَادِيَ لَم تُمْنَنْ وإنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غير محجوب الغِنى عن صديقهولا مُظْهِرا للشكوى إذا النعل زَلّت

و { رفيع } يجوز أن يكون صفة مشبهة. والتعريف في { الدرجات } عوض عن المضاف إليه. والتقدير: رفيعةٌ درجاتُه، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته سلك طريق الإضافة وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال: فلان حسنٌ فعلُه، ويقال: فلان حسَنُ الفعل، فيؤُول قوله: { رَفِيعُ الدَّرَجات } إلى صفة ذاته.

و { الدرجات } مستعارة للمجد والعظمة، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر، والمعنى: أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه. ويجوز أن يكون { ٱلْكَـٰفِرُونَ } من أمثلة المبالغة، أي كثير رفعِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى: { نرفع درجات من نشاء } [يوسف: 76]. وإضافته إلى { الدرجات }من الإِضافة إلى المفعول فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى.

والمقصود: تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } في سورة [المجادلة: 11].

و { ذُو العَرْش } خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت.

كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل: إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم.

وجملة { يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه } خبر ثالث، أو بدلُ بعض من جملة { رَفِيعُ الدرجات } فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه.

والإِلقاء: حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب، وكثر هذا في القرآن، قال: { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم } [النحل: 86، 87]. واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض.

والروح: الشريعة، وحقيقة الروح: ما به حياة الحيّ من المخلوقات، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحْي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم، فكما تستعار الحياة للإِيمان والعِلمِ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة، ويطلق الروح على المَلَك قال: { فأرسلنا إليها روحَنا فتمثل لها بشراً سويا } [مريم:17].

و { مِنْ } ابتدائية في { مِن أمْرِهِ }، أي بأمره، فالأمر على ظاهره. ويجوز أن تكون { من } تبعيضية ظرفاً مستقراً صفة { الروح } أي بَعْضَ شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن، أي الشؤون العجيبة، وقيل: { من } بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد.

وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله: { فادعوا الله مخلصين له الدين } [غافر: 14] ثم أُعقب بقوله: { رفيع الدرجات } فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات، ثم أعقب بقوله: { يُلقِي الرُّوح من أمرِه } فجيء بفعل الإِلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة { مَن يَشاء مِن عِباده }، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [الأنعام:124]. وهذا يرتبط بقوله في أول سورة الزمر (2) { { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين } فأمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعاً على إنزال الكتاب إليه، وجاء في شأن الناس بقوله: { فادعوا الله مُخْلِصين } [غافر: 14] ثم أعقبه بقوله: { رَفِيع الدرجات }.

وقد ضَرب لهم العرشَ والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء، وفيه تعريض بتسفيه المشركين { فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه } [القمر:24]، { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف: 31] و { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [الأنعام:124].

وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى: { ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم } [غافر:12] الخ.

والإِنذار: إِخبار فيه تحذير مما يسوء، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة. وفعله المجرد: نَذِر كعلم، يقال: نَذِر بالعدوّ فحَذِره. والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد، وأن يتعدى إلى الأمر المخبَر به بالباء، يقال: أنذرتُهم بالعَدوّ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن، وأما قوله في أول [الأعراف: 2] { لتنذر به } فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية. وضمير (به) عائداً إلى (الكتاب).

والضمير المستتر في { لينذر } عائد إلى اسم الجلالة من قوله: { فادعوا الله } [غافر:14]، والأحسن أن يعود على { مَن } الموصولة لينذر من ألقَى عليه الروحَ قومَه، ولأن فيه تخلصاً إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإِنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجِّح لإِظهار اسم الجلالة في قوله: { لا يخفى على الله منهم شيء } كما سيأتي.

و { يوم التَلاَقي } هو يوم الحشر، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازياً، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى: { الذين لا يرجون لقاءنا } [يونس:7] أي لا يرجُون يوم الحشر. وانتصبَ { يوم التلاقي } على أنه مفعول ثان لــــ { ينذر }، وحذف المفعول الأول لظهوره، أي لينذر الناسَ. وبَين { التَّلاَقي } و { يُلْقي } جناس.

وكتب { التَّلاَقي } في المصحف بدون ياء. وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء. وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع. وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعاً.

و { يَوْمَ هُم بٰرِزُون } بدل من { يَوْمَ التَّلاَقي }. و { هم بارزون } جملة اسمية، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير.

وضمير الغيبة عائد إلى { الكافِرُونَ } [غافر: 14] من قوله: { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [غافر: 14].

وجملة { لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ } بيان لجملة { هُم بٰرِزُون } والمعنى: أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم: { مِنْهم شَيءٌ }.

وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله: { على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ }، ولأن الأظهر أن ضمير { ليُنذِر } عائد إلى { مَن يَشَاء }.

ومعنى { مِنهُم } من مجموعهم، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام، وأوثر أيضاً لفظ { شَيْءٌ } لتوغله في العموم، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ، أي من أجزاء جسمه، فالمعنى: لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها.

{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ القهار }

مقول لقول محذوف، وحذف القول من حديث البحر. والتقدير: يقول الله لمن الملك اليوم، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله.

والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء، مثل قول اليونان بإلٰه البحر وإلٰه الحرب وإلٰه الحكمة، وقول أقباط مصر بإلٰه الشمس وإلٰه الموت وإلٰه الحكمة، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللاتِ لثقيف، وذي الخَلَصة لدوْس، ومناةَ للأوس والخزرج. وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون: { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص:38] وقولِه: { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي } [الزخرف: 51]، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب: ملك الملوك (شاهنشاه)، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا (شاه جهان). ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر «ثم "يقول الله أنا المَلِك أين ملوك الأرض" » استفهاماً مراداً منه تخويفهم من الظهور يومئذٍ، أي أين هم اليوم لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم.

ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير، وقريب منه: { وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان } [البقرة: 186].

و { اليوم } المعرف باللام هو اليوم الحاضر، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام.

وجملة { لله الوٰحِد القَهَّار } يجوز أن تكون من بقية القول المقدر الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملاً في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه، ونظيره قوله تعالى: { عَمَّ يتساءَلُون عَنِ النبإ العَظِيم } [النبأ: 1، 2]. ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف، أي فيقول المسؤولون: { لله الواحد القهَّار } إقراراً منهم بذلك، والتقدير: فيقول البارزون لله الواحد القهار، فتكون معترضة.

وذكر الصفتين { الوٰحِدِ القَهَّار } دون غيرهما من الصفات العُلَى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله: { لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ } حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين.