التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ
٣٨
يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ
٣٩
مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
٤٠
-غافر

التحرير والتنوير

هذا مقال في مقام آخر قاله مؤمنُ آل فرعون، فهذه المقالات المعطوفة بالواو مقالات متفرقة. فابتدأ موعظته بندائهم ليلفت إليه أذهانهم ويستصغي أسماعهم، وبعنوان أنهم قومه لتَصْغَى إليه أفئدتُهم. ورتب خطبتُه على أسلوب تقديم الإِجمال ثم تعقيبه بالتفصيل، فابتدأ بقوله: { اتَّبِعُونِ أَهدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ }، وسبيل الرشاد مجمل وهو على إجماله مما تتوق إليه النفوس، فربْطُ حصوله باتِّباعهم إيَّاه مما يُقبِل بهم على تلقّي ما يفسر هذا السبيل، ويسترعي أسماعهم إلى ما يقوله إذ لعله سيأتيهم بما ترغبه أنفسهم إذ قد يَظنون أنه نقحَ رأَيه ونخَل مقالَه وأنه سيأتي بما هو الحق الملائم لهم. وتقدم ذكر { سبيل الرشاد } آنفاً.

وأعاد النداء تأكيداً لإِقبالهم إذْ لاحت بوارقه فأكمل مقدمته بتفصيل ما أجمله يذكرهم بأن الحياة الدنيا محدودة بأجل غير طويل، وأن وراءها حياةً أبدية، لأنه علم أن أشدّ دفاعهم عن دينهم منبعثٌ عن محبة السيادة والرفاهية، وذلك من متاع الدنيا الزائل وأن الخير لهم هو العمل للسعادة الأبدية. وقد بنَى هذه المقدمة على ما كانوا عليه من معرفة أن وراء هذه الحياة حياة أبدية فيها حقيقة السعادة والشقاء، وفيها الجزاء على الحسنات والسّيئات بالنعيم أو العذاب، إذ كانت ديانتهم تثبت حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ولكنها حَرفت معظم وسائل السعادة والشقاوة، فهذه حقائق مسلّمة عندهم على إجمالها وهي من نوع الأصول الموضوعة في صناعة الجَدل، وبذلك تمّت مقدمة خطبته وتهيأت نفوسهم لبيان مقصده المفسِّر لإِجمال مقدمته.

فجملة { إنما هٰذهِ الحيَوٰة الدُّنيا مَتٰعٌ } مبينة لجملة { أهْدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ }. والمتاع: ما ينتفع به انتفاعاً مؤجلاً. والقرار: الدوام في المكان. والقصر المستفاد من قوله { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } قصرُ موصوفٍ على صفة، أي لا صفة للدنيا إلا أنها نفع موقت، وهو قصر قلب لتنزيل قومه في تهالكهم على منافع الدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة.

وجملتا { مَنْ عَمِلَ سَيِئَةً } إلى آخرهما بيان لجملة { وإنَّ الآخِرَة هِيَ دَارُ القَرارِ }. والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله { وَإِنَّ الآخِرَة هي دَارُ القَرارِ } قصرُ قلْبٍ نظير القصر في قوله: { إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا مَتٰعٌ }، وهو مؤكد للقصر في قوله: { إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا مَتٰعٌ } من تأكيد إثبات ضد الحكم لضد المحكوم عليه، وهو قصر قلب، أي لاَ الدنيا. (ومَنْ) من قوله: { مَنْ عَمِلَ سَيِئةَ } شرطية. ومعنى { إلاَّ مِثْلَهَا } المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّء، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير، أي لا يطمعوا أن يعملوا السيئات وأنهم يجازَون عليها جزاءَ خير. وفي «صحيح البخاري» عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له، إنك بوعظك تقنط الناس فقال: «أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول: { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [الزمر: 53] ولكنكم تُحبون أن تُبشَّروا بالجنة على مساوي أعمالكم». وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونِين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة، ولذلك توجد على جُدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه.

ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإِيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول: { ومَنْ عَمِلَ صٰلِحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ }، فالإِيمان هو أُسٌّ هيكل النجاة، ولذلك كان الكفر أُسَّ الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيّء فإن سُوءه وفساده جُزئي مُنقَضٍ فكان العقاب عليه غير أبدي، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرّها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبدياً، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله: { فَلاَ يُجْزَىَ إلاَّ مِثلها } أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأن مِثْل الكفر في كونه ملازماً للكافر إِن مات كافراً.

وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب، بأنه قول يفضي إلى إزالة مزية الإِيمان، وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع، ونظير هذا المعنى قوله تعالى: { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا } [البلد: 13 ــــ 17].

وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه: من عمل صالحاً ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله: { مَنْ عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها }، فإنْ خلَط المؤمن عملاً صالحاً وسيئاً فالمقاصة، وبيانه في تفاصيل الشريعة.

وقوله: { بِغَيْرِ حِسابٍ } كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى: { إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب } في سورة [آل عمران: 37].

و { مَن } في قوله: { وَمَنْ عَمِلَ صٰلِحاً } الخ شرطية، وجوابها { فَأُولٰئِك يَدْخُلون الجنَّة }. وجيء باسم الإشارة لِلتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجْل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف، وهي عمل الصالحات مع الإِيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإِفادة الحصر. والمعنى: أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّىء لا تدخلونها.

وقوله: { مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَىٰ } بيان لما في { مَنْ } من الإِبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ { ذَكَرٍ أو أُنْثَىٰ } مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصاً على إرادة العموم، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام، وتعريضاً بفرعون وخاصته أنهم غير مُفلَتين من الجزاء.

وقرأ الجمهور { يَدْخُلونَ الجَنَّة } بفتح الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء، والمعنى واحد.