التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٧٧
-غافر

التحرير والتنوير

قد كان فيما سبق من السورة ما فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما تلقَّاه به المشركون من الإِساءة والتصميم على الإِعراض ابتداء من قوله في أول السورة { { فَلاَ يَغْرُرك تقَلُّبُهم في البِلٰدِ } [غافر: 4] ثم قوله: { أوَلَمْ يَسِيُروا في الأرض فَيَنْظُروا كيْفَ كانَ عٰقِبَةُ الذين كانُوا مِن قَبْلِهم } [غافر: 21]، ثم قوله: { إنَّا لَنَنْصر رُسُلنا } } [غافر: 51] ثم قوله: { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } [غافر: 55] الآية، ففرع هنا على جميع ما سبق وما تخلله من تصريح وتعريض أن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يلاقيه منهم، وهذا كالتكرير لقوله فيما تقدم { فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغْفِر لِذَنْبِك } [غافر: 55]. وذلك أن نظيره المتقدم ورد بعد الوعد بالنصر في قوله: { إنَّا لننصُرُ رُسُلنا والذين آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا ويوْمَ يَقُوم الأشْهادُ } [غافر: 51] ثم قوله: { ولقد ءاتينا موسى الهُدى وأورثنا بني إسرائيل الكِتاب } [غافر: 53] الآية، فلما تمّ الكلام على ما أخذ الله به المكذبين من عذاب الدنيا انتقَلَ الكلامُ إلى ذكر ما يلقونه في الآخرة بقوله: { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رُسُلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسِل } [غافر: 70، 71] الآيات، ثم أعقبه بقوله: { فاصبر إن وعد الله حق } عوْداً إلى بدء إذ الأمر بالصبر مفرّع على ما اقتضاه قوله: { { فَلا يَغْرُرك تقلبهم في البلادِ كَذَّبَت قبلهم قومُ نوح } [غافر: 4، 5] الآيات، ثم قوله: { وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر } [غافر: 18] ثم قوله: { أوَلَمْ يَسِيروا في الأرضِ فَيَنظُروا } [غافر: 21] وما بعده، فلما حصل الوعد بالانتصاف من مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، أعقب بقوله: { فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فإمَّا نُرينَّك بعض الذي نعِدُهُم } فإن مناسبة الأمر بالصبر عقب ذلك أن يكون تعريضاً بالانتصار له ولذلك فرع على الأمر بالصبر الشرطُ المردَّد بين أن يريه بعض ما توعدهم الله به وبين أن لا يراه، فإن جواب الشرط حاصل على كلتا الحالتين وهو مضمون { فإلينا يُرْجعون } أي أنهم غير مفلَتين من العقاب، فلا شك أن أحد الترديديْن هو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم عذابهم في الدنيا.

ولهذا كان للتأكيد بــــ (إنَّ) في قوله: { إنَّ وعد الله حق } موقعُه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استبطأوا النصر كما قال تعالى: { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللَّه } [البقرة: 214] فنزلوا منزلة المتردد فيه فأُكد وعده بحرف التوكيد. والتعبير بالمضارع في قوله: { يرجعون }لإِفادته التجدد فيشعر بأنه رجوع إلى الله في الدنيا.

وقوله: { فإمَّا نُرِيَنَّكَ } شرط، اقترن حرف (إنْ) الشرطية بحرف (ما) الزائدة للتأكيد ولذلك لحقت نون التوكيد بفعل الشرط. وعطف عليه { أو نَتَوفَّيَنَّكَ } وهو فعل شرط ثان. وجملة { فإلينا يُرْجَعُون } جواب لفعل الشرط الثاني لأن المعنى على أنه جواب له. وأما فعل الشرط الأول فجوابه محذوف دل عليه أول الكلام وهو قوله: { إنَّ وعد الله حق } وتقديرُ جوابه: فإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاكَ، أو نتوفينك فإلينا يُرجعون، أي فهم غير مفلَتين مما نعدهم.

وتقدم نظير هذين الشرطين في سورة يونس إلا أن في سورة [يونس: 46] { { فإلينا مرجعهم } وفي سورة غافر { فإلينا يُرْجعون }، والمخالفة بين الآيتين تفنن، ولأن ما في يونس اقتضى تهديدهم بأن الله شهيد على ما يفعلون، أي على ما يفعله الفريقان من قوله: { { ومنهم من يستمعون إليك } [يونس: 42] وقوله: { ومنهم من ينظر إليك } [يونس: 43] فكانت الفاصلة حاصلة بقوله: { { على ما يفعلون } [يونس: 46]، وأما هنا فالفاصلة معاقبة للشرط فاقتضت صوغ الرجوع بصيغة المضارع المختتم بواو ونون، على أن { { مرجعهم } [يونس: 46] معرف بالإِضافة فهو مشعر بالمرجع المعهود وهو مرجعهم في الآخرة بخلاف قوله: { يرجعون } المشعر برجوع متجدد كما علمت.

والمعنى: أنهم واقعون في قبضة قدرتنا في الدنيا سواء كان ذلك في حياتك مثل عذاب يوم بدر أو بعد وفاتك مثل قتلهم يوم اليمامة، وأما عذاب الآخرة فذلك مقرر لهم بطريق الأوْلى، وهذا كقوله: { { أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [الزخرف: 42].

وتقديم المجرور في قوله: { فإلينا يُرْجعون } للرعاية على الفاصلة وللاهتمام.