التفاسير

< >
عرض

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
-فصلت

التحرير والتنوير

عطف على جملة { { ويَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله } [فصلت: 19]، وذلك أنه حُكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله { { قُل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } [فصلت: 9] ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله { ويوم يحشر أعداء الله } ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأتْ عنه أحوالهم بقوله: { وَقَيَّضنا لَهُم قُرَنَاءَ }. وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ.

وَقَيَّض: أَتاح وهيَّأ شيئاً للعمل في شيء. والقرناء جَمْعُ: قرين، وهو الصاحب الملازم، والقرناء هنا: هم الملازمون لهم في الضلالة: إمَّا في الظاهر مثلُ دعاة الكفر وأيمتِه، وإما في باطن النفُوس مثلُ شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم: { { ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطاناً فهو له قرين } ويأتي في سورة الزخرف (36). ومعنى تقييضهم لهم: تَقديرهم لهم، أي خَلْق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاةِ والقابلين كما يقول الحُكماء «استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما». فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابّ بين الجماعات، ولمختلف الطبائع المكوَّنَةِ في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبيةَ الشياطين إليها وحدوثَ الخواطر السيئة فيها. وللإِحاطة بهذا المقصود أُوثر التعبير هنا بــــ { قيضنا } دون غيره من نحو: بَعثنا، وأرسلنا.

والتزيين: التحسين، وهو يشعر بأن المزيَّن غير حسن في ذاته. و { مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم } يستعار للأمور المشاهدة، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة.

والمراد بــــ { مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم } أمور الدنيا، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام، وقتل النفس بلا حق، وأكل الأموال، والعدول على الناس باليد واللسان، والميسر، وارتكاب الفواحش، والوأد. فعوّدوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة.

والمراد بــــ { ما خلفهم } الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم، وإحالتهم بعثة الرسل، وإحالتهم البعث والجزاء. ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم: { { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون } [الصافات: 16،17].

و { حق عليهم } أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر، فالتعريف في { القَوْل } للعهد. وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يُعهد منه هذا القول مثل قوله: { { أفمن حق عليه كلمة العذاب } [الزمر: 19] وقوله: { { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } [الصافات: 31]، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية.

وقوله: { فِي أُمَمٍ } حال من ضمير { عَلَيْهِم }، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم. والظرفية هنا مجازية، وهي بمعنى التبعيض، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول. ومثل هذا الاستعمال قول عمرو ابن أُذينة:

إن تَك عَن أَحسن الصنيعة مأفوكاً ففي آخرينَ قد أُفِكوا

أي فأنت من جملة آخرين قد صُرفوا عن أحسن الصنيعة.

و{ مِن } في قوله: { مِنَ الجِنِّ والإنْسِ } بيانية، فيجوز أن يكون بياناً لــــ { أُمَمٍ }، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى: { { قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ص: 84،85]، وقوله: { { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } [الأعراف: 38] ويجوز أن يكون بياناً لــــ{ قُرَنَاءَ } أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله.

وجملة { إنَّهُم كَانُوا خٰسِرِينَ } يجوز أن تكون بياناً للقول مثل نظيرتها { { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } في سورة الصافات (31)، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { وحَقَّ عَلَيهِم القَوْلُ في أُمَمٍ } والمعنيان متقاربان.