التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
-فصلت

التحرير والتنوير

عَطْفُ هذه الجملة له موقع عجيب، فإنه يجوز أن يكون عطفاً على جملة { { وَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إلى الله } [فصلت: 33] الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمِّهم، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمُّحُ الصفة مقارن له، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى: { { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } [غافر: 58]، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض. ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تَغلبون } [فصلت: 26] الواقعة بعد جملة { { وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مِمَّا تدعُونَا إليه } [فصلت: 5] إلى قوله: { { فاعمل إننا عٰمِلُون } [فصلت: 5] فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله: { ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة } الآية.

فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأُولاها تبادراً إلى الأذهان حسنةُ الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقَى به المشركون دعوةَ الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة. فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها { ادْفَع بالتي هِيَ أحْسَنُ } الآية.

وقد علمتَ غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالباً تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالى: { { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [السجدة: 18]. وقولِ الأعشى:

ما يُجْعَلُ الجُدُّ الضَّنُونُ الذيجُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الماطر
مِثلَ الفُراتيِّ إذَا مَا طَمَايَقْذِفُ بالبُوصِيِّ والماهرِ

فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ولا تستوي الحسنة والسيئة، دون إعادة { لا } النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى: { { وما يستوي الأعمى والبصير } [غافر: 58]، فإعادة { لا } النافية تأكيد لأختها السابقة. وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام، تقديره: وما تسْتوي الحسنة والسيئةُ ولا السيئة والحسنة. فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوىء السيئة، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة. وذلك هو الاستواء في الخصائص، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين: جنسِ الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجازَ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر.

وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المُحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله: { ادْفَع بالتي هي أحسن }، فيشبه أن يكون إيثارُ نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئةً للانتقال إلى قوله: { ادْفَعَ بالتي هي أحسن }.

وقوله: { ادْفَعَ بالتي هي أحسن } يجري موقعُه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة }.

فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة { ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة } تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخُلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبةِ أَن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشاداً من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى. وهي على الوجه الثاني من وجهيْ موقع جملة { ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة } واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصدِ من المقدمة، فمضمونها ناشىء عن مضمون التي قبلها.

وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة { ادفَع بالتي هي أحْسَن } مفصولة غير معطوفة.

وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خُلُقُه كما قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" . وقالت عائشة لما سئلت عن خلُقه (كان خلقه القرآن) لأنه أفضل الحكماء.

والإحسان كمال ذاتي ولكنه قد يكون تركه محموداً في الحدود ونحوها فذلك معنىً خاص. والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة: «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلاّ أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لله». وتخلُّقُ الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى: { { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللَّه } [الشورى: 40].

وروى عياض في «الشفاء» (وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابنُ جرير في «تفسيره») لما نزل قوله تعالى: { { خذ العفو } [الأعراف: 199] سألَ النبي صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالِم، فأتاه فقال: « يا محمد إن الله يأمرك أن تَصِل من قطعك وتُعطيَ من حَرمَك وتعفوَ عمن ظلمك».

ومفعول { ادْفَع } محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعاً بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير: ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى: { { ويدرءون بالحسنة السيئة } في سورة الرعد (22) وقوله: { { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } في سورة المؤمنين (96).

و { التي هي أحسن } هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيباً في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك. وقد ورد في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح" . وقد قيل: إن ذلك وصفه في التوراة. وفرع على هذا الأمر قوله: { فَإِذَا الذي بَيْنَك وبينه عدٰوةٌ كأنَّه وليٌّ حَمِيمٌ } لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضاً على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدراً للإحسان. ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مَثَارِها. وأَمَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق، وحُسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حُسنه على حسن سببه.

ولذكر المُثُل والنتائج عقب الإرشاد شأن ظاهر في تقرير الحقائق وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة، فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة أو يُكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن.

و(إذا) للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدوّ صديقاً. وعدل عن ذكر العَدوّ معرفاً بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونِها، كما أن ظرف { بَيْنَك وبَيْنَه } يصدق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمة العداوة أو طُرُوَّها.

وهذا تركيب من أعلى طَرَف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإِحسان ناجع في اقتلاع عداوة المحسَن إليه للمحِسِن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفاً، وتمكناً وبعداً، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدوّ قوياً بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها. ومن الأقوال المشهورة: النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.

والتشبيه في قوله: { كأنَّه وليُّ حَميمٌ }، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوتُ الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإِحسان وتفاوت قوة العداوة قبلَ الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبَّه به إذ من النادر أن يصير العدوّ وليّاً حميماً، فإنْ صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإِسراع الذي آذنتْ به (إذا) الفجائية. والعداوةُ التي بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة في الدين، فالمعنى: فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعدَ الكفر فزالت عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يوماً للنبي صلى الله عليه وسلم لأنتَ أحب إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خِباءٍ أحبُّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك واليومَ ما أهلُ خِباء أحبُّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً، أي وستزيدِين حباً.

وعن مقاتل: أنه قال: هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدواً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فصار بعد إسلامه ولياً مصافياً. وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإِحسان.

والولي: اسم مشتق من الوَلاية بفتح الواو، والولاء، وهو: الحليف والناصر، وهو ضد العدو، وتقدم في غير آية من القرآن.

والحميم: القريب والصديق. ووجه الجمع بين { وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أنه جمَع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة.