التفاسير

< >
عرض

مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
٤٣
-فصلت

التحرير والتنوير

{ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ }.

استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله: { { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [فصلت: 40]، وقوله: { { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } [فصلت: 41] وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل: فما بال هؤلاء طعنوا فيه؟ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به. وإذا بنيت على ما جوزته سابقاً أن يكون جملة: { مَّا يُقَالُ } خبر { { إنّ } [فصلت: 41] كانت خبراً وليست استئنافاً.

وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض. ولهذا الكلام تفسيران:

أحدهما: أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم فما صدقُ { مَا قَدْ قِيلَ للِرُّسُلِ } هو مقالات الذين كذبوهم، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى: { { أتواصوا به } [الذاريات: 53].

التفسير الثاني: ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك، فأنت لم تكن بدعاً من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، فمَا صدقُ: { مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسل } هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى: { { إن هذا لفي الصحف الأولى } [الأعلى: 18]. وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما.

وفي التعبير بــــ{ ما } الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله: { مَّا يُقَالُ } وقوله: { مَا قَدْ قِيلَ } نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين، وفي قوله: { إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل } تشبيه بليغ. والمعنى: إلا مثل ما قد قيل للرسل.

واجتلاب المضارع في { مَا يُقَال } لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك.

واقتران الفعل بــــ{ قد } لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم. وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم، وهذا على حد قوله تعالى: { { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [الذاريات: 52،53].

{ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }

تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له. ووقوع هذا الخبر عقب قوله: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } يومىء إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه، فالخبر مستعمل في لازمه.

ومعنى المغفرة له: التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير. وحرف { إنَّ } فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد.

وكلمة { ذو } مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما.

ووصف العقاب بــــ{ أَلِيمٍ } دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا.

وفي جملة: { إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَابٍ ألِيم } مُحسِّن الجمع ثم التقسيم، فقوله: { ما يقال لك } يجمع قائلاً ومقولاً له فكان الإِيماء بوصف (ذو مغفرة) إلى المقول له، ووصف { ذو عقاب أليم } إلى القائلين، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلاًّ إلى مناسبه.