التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
١٩
-الشورى

التحرير والتنوير

هذه الجملة توطئة لجملة { { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } [الشورى: 20] لأن ما سيذكر في الجملة الآتية هو أثر من آثار لطف الله بعباده ورفقه بهم وما يَسَّر من الرزق للمؤمنين منهم والكفار في الدّنيا، ثم ما خصّ به المؤمنين من رزق الآخرة، فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً مقدِّمة لاستئناف الجملة الموطَّإ لها، وهي جملة { { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الآية [الشورى: 20]. وموقع جملة { من كان يريد حرث الآخرة } الخ فسنبينه.

واللطيف: البَر القوي البِرّ. ويدخل في هذا كثير من النعم. فسّر عدد من المفسّرين { اللطيف } بواهب بعضها وإنما هو تفسيرُ تمثيل لا يخُصُّ دلالةَ الوصف به. وفعل (لَطَف) من باب نصر يتعدى بالباء كما هنا وباللام كما في قوله: { { إن ربّي لطيفٌ لما يشاء } كما تقدم في سورة يوسف (100). وتقدم تحقيقُ معنى اسمه تعالى { اللطيف }.

وعباده عام لجميع العباد، وهم نوع الإنسان لأنه جمع مضاف. وجملة { يرزق من يشاء } في موضع الحال من اسم الجلالة، أو في موضع خبر عنه.

والرزق: إعطاء ما ينفع. وهو عندنا لا يختص بالحلال وعند المعتزلة يختص به والخلاف اصطلاح.

والظاهر: أن المراد هنا رزق الدّنيا لأن الكلام توطئة لقوله: { { من كان يريد حرث الآخرة } [الشورى: 20].

والمشيئة: مشيئة تقدير الرّزق لكل أحد من العباد ليكون عموم اللطف للعباد باقياً، فلا يكون قوله: { من يشاء } في معنى التكرير، إذ يصير هكذا يرزق من يشاء من عباده الملطوفِ بجميعهم، وما الرزق إلا من اللطف، فيصيرُ بعضَ المعنى المفاد، فلا جرم تعيّن أن المشيئة هنا مصروفة لمشيئة تقدير الرزق بمقاديره.

والمعنى: أنه للطفه بجميع عباده لا يترك أحداً منهم بلا رزق وأنه فضل بعضهم على بعض في الرزق جرياً على مشيئته. وهذا المعنى يثير مسألة الخلاف بين أيمة أصول الدّين في نعمة الكافر، ومِن فروعها رزقُ الكافر. وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه نعمةً دنيوية لأن ملاذّ الكافر استدراج لمَّا كانت مفضية إلى العذاب في الآخرة فكانت غير نعمة، ومرادهم بالدنيوية مقابل الدينية. وكأنَّ مراد الشيخ بهذا تحقيق معنى غضب الله على الكافرين كما جاء في آيات كثيرة، فمراده: أن الكافر غير مُنْعَم عليه نعمةَ رضى وكرامةٍ ولكنها نعمة رحمة لما له من انتساب المخلوقية لله تعالى.

وقال أبو بكر الباقلاني: الكافر منعَم عليه نعمة دُنيوية. وقالت المعتزلة: هو منعم عليه نعمة دنيوية ودينية: فالدنيوية ظاهرة، والدّينية كالقُدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله.

وهذه مسألة أرجع المحققون الخلافَ فيها إلى اللفظ والبناءِ على المصطلحات والاعتبارات الموافقة لدقائق المذاهب، إذ لا ينازع أحد في نعمة المنعمين منهم وقد قال تعالى: { { وذرْني والمُكذبين أولي النَّعْمَة } [المزمل: 11].

وعُطف { وهو القوي العزيز } على صفة { لطيف } أو على جملة { يرزق من يشاء } وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة، فإنه قوي عزيز لا يَعجز ولا يصانِع، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قِلّةٍ فإنه القويّ، والقوي تنتفي عنه أسباب الشحّ، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة عَلِمها في أحوال خلقه عامة وخاصة، قال تعالى: { { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكِنْ ينزِّل بقَدَر ما يشاء } [الشورى: 27] الآية.

والإخبار عن اسم الجلالة بالمسند المعَرّفِ باللام يفيد معنى قصر القوة والعزة عليه تعالى، وهو قصر الجنس للمبالغة لكماله فيه تعالى حتى كأنَّ قوة غيره وعزّة غيره عَدَم.