التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ
٢٩
-الشورى

التحرير والتنوير

لما كان إنزال الغيث جامعاً بين كونه نعمة وكونه آية دالة على بديع صنع الله تعالى وعظيم قدرته المقتضية انفراده بالإلـٰهية، انتقل من ذكره إلى ذكر آيات دالة على انفراد الله تعالى بالإلـٰهية وهي آية خلق العوالم العظيمة وما فيها مما هو مشاهد للناس دون قصد الامتنان. وهذا الانتقال استطراد واعتراض بين الأغراض التي سياق الآيات فيها.

والآيات: جمع آية، وهي العلامة والدليل على شيء. والسياق دال على أن المراد آيات الإلـٰهية. والسموات: العوالم العليا غير المشاهدة لنا والكواكب وما تجاوزَ الأرضَ من الجو. والأرضُ: الكرة التي عليها الحيوان والنبات. والبث: وضع الأشياء في أمكنة كثيرة.

والدابة: ما يدُبّ على الأرض، أي يمشي فيشمل الطير لأن الطير يمشي إذا نزل وهو مما أريد في قوله هنا: { فيهما } أي في الأرض وفي السماء، أي بعض ما يسمى بالسماء وهو الجو وهو ما يلوح للناظر مثل قبة زرقاء على الأرض في النهار، قال تعالى: { { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جوّ السماء } [النحل: 79] فإطلاق الدابّة على الطير باعتبار أن الطير يدبّ على الأرض كثيراً لالتقاط الحب وغيرِ ذلك. وأمّا الموجودات التي في السموات العُلى من الملائكة والأرواح فلا يطلق عليها اسم دابّة. ويجوز أن تكون في بعض السماوات موجودات تدبّ فيها فإن الكواكب من السماوات. والعلماء يترددون في إثبات سكان في الكواكب، وجوز بعض العلماء المتأخرين أن في كوكب المريخ سكاناً، وقال تعالى: { { ويخلق ما لا تعلمون } [النحل: 8]، على أنه قد يكون المراد من الظرفية في قوله: { فيهما } ظرفية المجموع لا الجميع، أي ما بَثَّ في مجموع الأرض والسماء من دابّة، فالدابّة إنما هي على الأرض، ولما ذكرت الأرض والسماء مقترنتين وجاء ذكر الدواب جعلت الدواب مظروفة فيهما لأن الأرض محوطة بالسماوات ومتخيّلة منها كالمظروف في ظرفه، والمظروفُ في ظرف مظروف في ظرف مظروفه كما قال تعالى: { { مرَج البحرين يلتقيان } [الرحمٰن: 19] ثم قال: { { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمٰن: 22] واللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين وهو البحر الملح لا من البحر العذب.

وجملة { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير }، معترضة في جُملة الاعتراض لإدماج إمكان البعث في عُرض الاستدلال على عظيم قدرة الله وعلى تفرده بالإلـٰهية.

والمعنى: أن القادر على خلق السماوات والأرض وما فيهما عن عدمٍ قادر على إعادة خلق بعض ما فيهما للبعث والجزاء لأن ذلك كله سواء في جواز تعلق القدرة به فكيف تعدُّونه محالاً. وضمير الجماعة في قوله: { جمعهم } عائد إلى ما بثّ فيهما من دابّة باعتبار أن الذي تتعلق الإرادة بجمعه في الحشر للجزاء هم العقلاء من الدوابّ أي الإنس. والمراد بـــ{ جمعهم } حشرهم للجزاء، قال تعالى: { { يوم يجمعكم ليوم الجمع } [التغابن: 9].

وقد ورد في أحاديث في «الصحيح» أن بعض الدواب تحشر للانتِصاف مِمن ظلمها. و{ إذا } ظرف للمستقبل وهو هنا مجرد عن تضمن الشرطية، فالتقدير: حين يشاء في مستقبل الزمان، وهو متعلق بــ { جمعهم }. وهذا الظرف إدماج ثان لإبطال استدلالهم بتأخر يوم البعث على أنه لا يقع كما حُكي عنهم في قوله تعالى: { { ويقولون متَى هُو قل عسى أن يكون قريباً } [الإسراء: 51] و { { يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [سبأ: 29، 30].