التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ
١٢
لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
١٣
وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ
١٤
-الزخرف

التحرير والتنوير

هذا الانتقال من الاستدلال والامتنان بخلق وسائل الحياة إلى الاستدلال بخلق وسائل الاكتساب لصلاح المعاش، وذكر منها وسائل الإنتاج وأتبعها بوسائل الاكتساب بالأسفار للتجارة. وإعادة اسم الموصول لما تقدم في نظيره آنفاً.

والأزواج: جمع زوج، وهو كل ما يصير به الواحد ثانياً، فيطلق على كل منهما أنه زوج للآخر مثل الشفع. وغلب الزوج على الذكر وأنثاه من الحيوان، ومنه { { ثمانية أزواج } في سورة الأنعام (143)، وتوسع فيه فأطلق الزوج على الصنف ومنه قوله: { { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [الرعد: 3]. وكلا الاطلاقين يصح أن يراد هنا، وفي أزواج الأنعام منافع بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ونتاجها.

ولما كان المتبادرُ من الأزواج بادىء النظر أزواجَ الأنعام وكان من أهمها عندهم الرواحل عطف عليها ما هو منها وسائل للتنقل برّاً وأدمج معها وسائل السفر بحراً. فقال: { وجعل لكم من الفُلك والأنعام ما تركبون } فالمراد بــ { ما تركبون } بالنسبة إلى الأنعام هو الإبل لأنها وسيلة الأسفار قال تعالى: { { وآيةٌ لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [يس: 41، 42] وقد قالوا: الإبلُ سفائن البر.

وجيء بفعل { جَعل } مراعاة لأن الفلك مصنوعة وليست مخلوقة، والأنعام قد عُرف أنها مخلوقة لشمول قوله: { خلَق الأزواج } إياها. ومعنى جَعل الله الفلكَ والأنعامَ مركوبة: أنه خلق في الإنسان قوة التفكير التي ينساق بها إلى استعمال الموجودات في نفعه فاحتال كيف يصنع الفلك ويركب فيها واحتال كيف يَروض الأنعام ويركبها.

وقُدم الفلك على الأنعام لأنها لم يشملها لفظ الأزواج فذكرها ذكرُ نعمة أخرى ولو ذكر الأنعام لكان ذكره عقب الأزواج بمنزلة الإعادة. فلما ذكر الفلك بعنوان كونها مركوباً عطف عليها الأنعام فصار ذكر الأنعام مترقباً للنفس لمناسبة جديدة، وهذا كقول امرىء القيس:

كأنيَ لم أركَبْ جواداً للذةٍولم أتَبطن كاعباً ذات خَلْخَال
ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْلخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال

إذ أعقب ذكر رُكوب الجواد بذكر تبطّن الكاعب للمناسبة، ولم يعقبه بقوله: ولم أقل لخيلي كري كرة، لاختلاف حال الركوبين: ركوب اللّذة وركوب الحَرب.

والركوب حقيقته: اعتلاء الدابّة للسير، وأطلق على الحصول في الفُلك لتشبيههم الفُلك بالدابّة بجامع السير فركوب الدابة يتعدّى بنفسه وركوب الفلك يتعدّى بــ (في) للفرق بين الأصيل واللاحق، وتقدم عند قوله تعالى: { { وقال اركبوا فيها } في سورة هود (41).

و{ من الفلك والأنعام } بيان لإبهام { ما } الموصولة في قوله: { ما تركبون }. وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب، وحذفُ مثله كثير في الكلام. وإذ قد كان مفعول { تركبون } هنا مبيَّناً بالفُلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بــ (في) فغلِّبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد، وحُذف العائد بناء على ذلك التغليب. واستعمال فعل { تركبون } هنا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.

والاستواء الاعتِلاء. والظهورُ: جمع ظَهر، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك، فهذا أيضاً من التغليب. والمعنى: على ظهوره وفي بطونه. فضمير { ظهوره } عائد إلى { ما } الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ. ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرففِ { على } بنيت على أن للسفينة ظهراً قال تعالى: { { فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك } [المؤمنون: 28].

وقد جُعل قوله: { لتستووا على ظهوره } توطئة وتمهيداً للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله: { ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه } أي حينئذٍ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها. وأجدر بعدم الذهول عنها، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان.

وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلـٰهية وهم لم يشاركوه في الأنعام. وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفاً فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة.

وعطف على { تذكروا نعمة ربّكم } قوله: { وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا }، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة.

وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمناً على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي. واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكراً لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا. واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة.

والتسخير: التذييل والتطويع. وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحاً لسبح السفن على مائه، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك، ورصد مهابّ الرياح، ووضع القلوع والمجاذيف، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية. ولهذا عقب بقوله: { وما كنّا له مُقْرِنين }أي مطيقين، أي بمجرد القوة الجسدية، أي لولا التسخير المذكور، فجملة { وما كُنَّا له مقرنين } في موضع الحال من ضمير { لنا } أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائماً مقام القوة.

والمُقرن: المطيق، يقال: أقرن، إذا أطاق، قال عمرو بن معديكرب:

لقد علم القبائل ما عُقَيللنا فِي النائبات بمُقْرِنينا

وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث. وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالماً إلى أهله.

والانقلاب: الرجوع إلى المكان الذي يفارقه. والجملة معطوفة على جملة التنزيه عطف الخبر على الإنشاء. وفي هذا تعريض بتوبيخ المشركين على كفران نعمة الله بالإشراك وبنسبة العجز عن الإحياء بعد الموت لأن المعنى: وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتشكروا بالقلب واللّسان فلم تفعلوا، ولملاحظة هذا المعنى أُكد الخبر. وفيه تعريض بالمؤمنين بأن يقولوا هذه المقالة كما شكروا لله ما سخر لهم من الفلك والأنعام. وفيه إشارة إلى أن حق المؤمن أن يكون في أحواله كلها ملاحظاً للحقائق العالية ناظراً لتقلبات الحياة نظر الحكماء الذين يستدلون ببسائط الأمور على عظيمها.