التفاسير

< >
عرض

فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ
١٠
يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١
-الدخان

التحرير والتنوير

تفريع على جملة { { بل هم في شك يلعبون } [الدخان: 9] قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم.

فالخطاب في { ارتقبْ } للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت. والارتقاب: افتعال من رقَبَه، إذا انتظره، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر. وفعل (ارتقب) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب.

و{ يوم } اسم زمان منصوب على أنه مفعول به لــ(ارتقب) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى: { { يخافون يوماً } [النور: 37]، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب { يومَ } نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة.

والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه. ولأن الجملة في قوة المصدر. والتقدير: فارتقب يوم إتيان السماء بدخان. وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أيامٍ وشهور كثيرة.

والدخان: ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب، وهو تشبيه بليغ، أي بمثل دخان.

والمبين: البين الظاهر، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بَان. والمعنى: أنه ظاهر لكل أحد لا يُشك في رؤيته. وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: الدخان في الآية هو: الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دُخَاناً وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف. وعن الأعرج: أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها. والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين.

فالمراد بالنّاس من قوله: { يغشى الناس } هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن، وأنه يُكشف زمناً قليلاً عنهم إعذاراً لهم لعلهم يؤمنون، وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله: { { إنّا كاشفوا العذاب قليلاً } [الدخان: 15]. وأما قوله: { { يوم نبطش البطشة } [الدخان: 16] فهو عذاب آخر. وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب، وإذ قد كانت الآية مكية تعيّن أن هذا الدخان الذي هو عذاب للمشركين لا يصيب المؤمنين لقوله تعالى: { { وما كان الله لِيُعذِّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [الأنفال: 33] فتعيّن أن المؤمنين يوم هذا الدخان غير قاطنين بدار الشرك، فهذا الدخان قد حصل بعد الهجرة لا محالة وتعيّن أنه قد حصل قبل أن يسلم المشركون الذين بمكة وما حولها فيتعيّن أنه حصل قبل فتح مكة أو يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والأصح أن هذا الدخان عُني به ما أصاب المشركين من سِنِي القحط بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والأصح في ذلك حديث عبد الله بن مسعود في «صحيح البخاري» عن مسلم وأبي الضحى عن مسروق قال: دخلتُ على عبد الله بن مسعود فقال: إنَّ قريشاً لما غَلَبوا على النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: اللّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سَنة أكلوا فيها العظام والميتةَ من الجَهْد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسقِ لمُضر أن يكشف عنهم العذاب، فدعا فكشف عنهم وقال الله له: إنْ كشفنا عنهم العذاب عَادوا، فعادُوا: فانتقم الله منهم يومَ بدر فذلك قوله تعالى: { { فارتقب يوم تأتي السماء بدخانٍ مبينٍ } [الدخان: 10]إلى قوله { { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [الدخان: 16] والبطشة الكبرى يوم بدر. وإن عبَد الله قال: مَضى خمس: الدخانُ، والرومُ والقَمَرُ والبطشة واللِّزَام.

في حديث أبي هريرة في «صحيح البخاري» في أبواب الاستسقاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة من الصبح يقول: "اللهم أنْج عياش بن أبي ربيعة. اللّهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطْأتَك على مُضَر، اللهم اجعلها عليهم سنينَ كسنينِ يوسُف" ". وهؤلاء الذين دعا لهم بالنجاة كانوا ممن حبسهم المشركون بعد الهجرة، وكل هذه الروايات يؤذن بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين بالسنين كان بعد الهجرة لئلا يعذب المسلمون بالجوع وأنه كان قبل وقعة بدر، وفي بعض روايات القنوت أنه دعا في القنوت على بني لحيان وعُصيَّة.

والذي يستخلص من الروايات أن هذا الجوع حلّ بقريش بُعيد الهجرة، وذلك هو الجوع الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "اللّهم أعِنِّي عليهم بسبَعٍ كسَبْعِ يُوسف" ، وفي رواية "اللّهم اشْدُدْ وَطْأتَك على مُضر، اللهم اجعلها عليهم سِنين كسنينِ يوسف" فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسق لِمُضَر وفي رواية عن مسروق عن ابن مسعود في «صحيح البخاري» أن الذي أتى النبي هو أبُو سفيان. وقال المفسرون: إن أبا سفيان أتاه في ناس من أهل مكة يعني أتوا المدينة لمَّا علموا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان دعا عليهم بالقحط، فقالوا: إن قومك قد هلَكُوا فادع الله أن يسقيهم فدعا. وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى: { يوم تأتي السماء بدخان مبين } تمثيلاً لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغِشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجوّ بهيئة الدخان النازل من الأفق، فالمجاز في التركيب. وأما مفردات التركيب فهي مستعملة في حقائقها لأن من معاني السماء في كلام العرب قُبة الجو، وتكون جملة { يغشى الناس } ترشيحاً للتمثيلية لأن الذي يغشاهم هو الظلمة التي في أبصارهم من الجوع، وليس الدخانَ هو الذي يغشاهم. وبعض الروايات ركب على هذه الآية حديثَ الاستسقاء الذي في «الصحيح» أن رجلاً جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلك الزرع والضرع فادعُ الله أن يسقينا فرفع يديه وقال: اللّهم اسقنَا ثلاثاً، وما يُرَى في السماء قَزَعَةُ سحاب، فتلبدت السماء بالسحاب وأمطروا من الجمعة إلى الجمعة حتى سالت الأودية وسال وادي قَنَاة شهراً، فأتاه آت في الجمعة القابلة هو الأول أو غيره، فقال: يا رسول الله تقطعت السبل فادع الله أن يمسك المطر عنا، فقال: اللّهم حَوَالَينا ولا علينا، فتفرقت السحب حتى صارت المدينة في شبه الإكليل من السحاب.

والجمع بين الروايتين ظاهر. ويظهر أن هذا القحط وقع بعد يوم بدر فهو قحط آخر غير قحط قريش الذي ذكر في هذه الآية.

ومعنى { يغشى الناس } أنه يحيط بهم ويعمّهم كما تحيط الغَاشية بالجسد، أي لا ينجو منه أحد من أولئك الناس وهم المشركون. فإن كان المراد من الدخان ما أصاب أبصارهم من رؤية مثل الغبرة من الجوع فالغشيان مجاز، وإن كان المراد منه غبار الحرب يوم الفتح فالغشيان حقيقة أو مجاز مشهور. ويجوز أن يكون غباراً متصاعداً في الجو من شدة الجفاف.

وقوله: { هذا عذاب أليم } قال ابن عطية يجوز أن يكون إخباراً من جانب الله تعالى تعجيباً منه كما في قوله تعالى في قصة الذبيح { { إنَّ هذا لهوَ البلاء المبين } [الصافات: 106]. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الناس الذين يغشاهم العذاب بتقدير: يقولون: هذا عذاب أليم. والإشارة في { هذا عذاب أليم } إلى الدخان المذكور آنفاً، عُدل عن استحضاره بالإضمار وأن يقال: هو عذاب أليم، إلى استحضاره بالإشارة، لتنزيله منزلة الحاضر المشاهد تهويلاً لأمره كما تقول: هذا الشتاء قادم فأعدَّ له.

وقريب منه الأمر بالنظر في قوله تعالى: { { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } [الأنعام: 24] فإن المحكي مما يحصل في الآخرة.