التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ
٣٤
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ
٣٥
فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٣٦
-الدخان

التحرير والتنوير

اعتراض بين جملة { { يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون } [الدخان: 16] وجملة { { أهم خيرٌ أم قوم تُبّع } [الدخان: 37] فإنه لما هددهم بعذاب الدخان ثم بالبطشة الكبرى وضرب لهم المثل بقوم فرعون أعقب ذلك بالإشارة إلى أن إنكار البعث هو الذي صرفهم عن توقع جزاء السوء على إعراضهم. وافتتاح الكلام بحرف { إنّ } الذي ليس هو للتأكيد لأن هذا القول إلى المشركين لا تردّد فيه حتى يحتاج إلى التأكيد فتعين كون حرف { إنَّ } لمجرد الاهتمام بالخبر، وهو إذا وقع مثل هذا الموقع أفاد التسبب وأغنى عَن الفاء. فالمعنى: إنا منتقمون منهم بالبطشة الكبرى لأنهم لا يرتدعون بوعيد الآخرة لإنكارهم الحياة الآخرة فلم ينظروا إلا لما هم عليه في الحياة الدنيا من النعمة والقوة فلذلك قدر الله لهم الجزاء على سوء كفرهم جزاء في الحياة الدنيا.

وضمير { هي } ضمير الشأن ويقال له: ضمير القصة لأنه يستعمل بصيغة المؤنث بتأويل القصة، أي لا قصة في هذا الغرض إلا الموتة المعروفة فهي موتة دائمة لا نشور لنا بعدها.

وهذا كلام من كلماتهم في إنكار البعث فإن لهم كلمات في ذلك، فتارة ينفون أن تكون بعد الموت حياة كما حكى عنهم في آيات أخرى مثل قوله تعالى: { { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } [الأنعام: 29]، وتارة ينفون أن يطرأ عليهم بعد الموتة المعروفة شيء غيرها يعنون بذلك شيئاً ضد الموتة وهو الحياة بعد الموتة. فلهم في نَفْي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود، وهذا القصر قصر حقيقي في اعتقادهم لأنهم لا يؤمنون باعتراء أحوال لهم بعد الموت.

وكلمة { هؤلاء } حيثما ذكر في القرآن غير مسبوق بما يصلح أن يشار إليه: مراد به المشركون من أهل مكة كما استنبطناه، وقدمنا الكلام عليه عند قوله تعالى: { { فإن يكفر بها هؤلاء } في سورة الأنعام (89).

ووصف { الأولى } مراد به السابقة مثل قوله: { { وأنه أهلك عاداً الأولى } [النجم: 50] ومنه قوله تعالى: { { ولقد ضلّ قبلهم أكثرُ الأولين } [الصافات: 71]. ونظيرها قوله تعالى: { { أفما نحن بميتين إلاّ موتَتَنا الأولى وما نحن بمعذبين } [الصافات: 58، 59].

وأعقبوا قصر ما ينتابهم بعد الحياة على الموتة التي يموتونها، بقوله: { وما نحن بمنشرين } تصريحاً بمفهوم القصر. وجيء به معطوفاً للاهتمام به لأنه غرض مقصود مع إفادته تأكيد القصر وجعلوا قولهم: { فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } حجة على نفي البعث بأن الأموات السابقين لم يرجع أحد منهم إلى الحياة وهو سفسطة لأن البعث الموعود به لا يحصل في الحياة الدنيا، وهذا من توركهم واستهزائهم.

وضمير جمع المخاطبين أرادوا به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يقولون لهم { { إنكم مبعوثون } [هود: 7] كما جاء في حديث خبّاب بن الأرتّ مع العاصي بن وائل الذي نزل بسببه قوله تعالى: { { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوَتَيَنّ مالاً وولداً } الآية، وتقدم في سورة مريم(77).