التفاسير

< >
عرض

وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
٤
أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٥
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦
-الدخان

التحرير والتنوير

القول في نظير هذا القَسَم وجوابه تقدم في أول سورة الزخرف. ونوه بشأن القرآن بطريقة الكناية عنه بذكر فضل الوقت الذي ابتدىء إنزاله فيه.

فتعريف { الكتاب } تعريف العهد، والمراد بالكتاب: القرآن.

ومعنى الفعل في { أنزلناه } ابتداء إنزاله فإن كل آية أو آيات تنزل من القرآن فهي منضمة إليه انضمام الجزء للكل، ومجموع ما يبلغ إليه الإنزال في كل ساعة هو مسمّى القرآن إلى أن تم نزول آخر آية من القرآن.

وتنكير { ليلة } للتعظيم، ووصفها بــ { مباركة } تنويه بها وتشويق لمعرفتها. فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدُىء فيها نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جَبل حِرَاءٍ في رمضان قال تعالى: { { شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن } [البقرة: 185].

والليلة التي ابتدىء نزول القرآن فيها هي ليلة القدر قال تعالى: { { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر: 1]. والأصح أنها في العشر الأواخر من رمضان وأنها في ليلة الوتر. وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلاً عظيماً لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم إلى النّاس كافة. قال تعالى: { { تنزَّل الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربّهم من كل أمرٍ سلامٌ هي حتى مطلع الفجر } [القدر: 4، 5]. وذلك من معاني بركتها وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم، ولعل تلك البركة تسري إلى شؤونهم الصالحة من أمور دنياهم.

فبركة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّرها الله لها قبل نزول القرآن ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها مُلابساً لوقت مبارك فيزداد بذلك فضلاً وشرفاً، وهذا من المناسبات الإلـٰهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها. والظاهر أن الله أمدّها بتلك البركة في كل عام كما أومأ إلى ذلك قوله: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } إذ قاله بعد أن مضى على ابتداء نزول القرآن بضْعَ عشرة سنة. وقولُه { { ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ } [القدر: 3] وقوله { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } وقوله: { فيها يفرق كل أمر حكيم }. وعن عكرمة: أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وهو قول ضعيف.

واختلف في الليلة التي ابتدىء فيها نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من ليالي رمضان، فقيل: هي ليلة سبعَ عشرة منه ذكره ابن إسحاق عن الباقر أخذاً من قوله تعالى: { { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } [الأنفال: 41] فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبعَ عشرة ليلة من رمضان اهــ. أي تأول قوله: { { وما أنزلنا على عبدنا } [الأنفال: 41] أنه ابتداء نزول القرآن. وفي المراد بــ{ ما أنزلنا } احتمالات ترفع الاحتجاج بهذا التأويل بأن ابتداء نزول القرآن كان في مثل ليلة يوم بدر. والذي يجب الجزم به أن ليلة نزول القرآن كانت في شهر رمضان وأنه كان في ليلة القدر. ولما تضافرت الأخبار "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر من رمضان في ثالثة تبقى في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى" . فالذي نعتمده أن القرآن ابتدىء نزوله في العشر الأواخر من رمضان، إلاّ إذا حُمل قول النبي صلى الله عليه وسلم "اطلبوها في العشر الأواخر" على خصوص الليلة من ذلك العام. وقد اشتهر عند كثير من المسلمين أنّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين باستمرار وهو مناف لحديث "اطلبوها في العشر الأواخر" على كل احتمال.

وجملة { إنا كنا منذرين } معترضة. وحرف (إنَّ) يجوز أن يكون للتأكيد ردًّا لإنكارهم أن يكون الله أرسل رسلاً للناس لأن المشركين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بزعمهم أن الله لا يرسل رسولاً من البشر قال تعالى: { { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [الأنعام: 91]، فكان ردّ إنكارهم ذلك ردًّا لإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون جملة { إنا كنّا منذرين } مستأنفة. ويجوز أن تكون (إنَّ) لمجرد الاهتمام بالخبر فتكون مغنية غناء فاء التسبب فتفيد تعليلاً، فتكون جملة { إنا كنا منذرين } تعليلاً لجملة { أنزلناه } أي أنزلناه للإنذار لأن الإنذار شأننا، فمضمون الجملة علة العلة وهو إيجاز وإنما اقتصر على وصف { منذرين } مع أن القرآن منذر ومُبشّر اهتماماً بالإنذار لأنه مقتضى حال جمهور الناس يومئذٍ، والإنذار يقتضي التبشير لمن انتذر. وحذف مفعول { منذرين } لدلالة قوله: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } عليه، أي منذرين المخاطبين بالقرآن.

وجملة { فيها يُفْرَقُ كلّ أمر حكيم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تنكير { ليلة }. ووصفها بــ { مباركة } كما علمت آنفاً فدل على عظم شأن هاتِه الليلة عند الله تعالى فإنها ظهر فيها إنزال القرآن، وفيها يفرق عند الله كل أمر حكيم. وفي هذه الجمل الأربع محسن اللف والنشر، ففي قوله: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } لفٌّ بين معنيين أولهما: تعيين إنزال القرآن، وثانيهما: اختصاص تنزيله في ليلة مباركة ثم علل المعنى الأول بجملة { إنا كنا منذرين }، وعُلل المعنى الثاني بجملة { فيها يُفْرَق كل أمر حكيم }.

والمنذر: الذي ينذر، أي يخبر بأمر فيه ضرّ لقصد أن يتقيه المخبر به، وتقدم في قوله تعالى: { { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة (119).

والفرق: الفصل والقضاء، أي فيها يُفصَل كل ما يراد قضاؤه في النّاس ولهذا يُسمى القرآن فرقاناً، وتقدم قوله تعالى: { { فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين } في سورة المائدة (25)، أي جَعل الله الليلة التي أنزل فيها القرآن وقتاً لإنفاذ وقوع أمور هامة مِثل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لتلك المقضيات وتشريفاً لتلك الليلة.

وكلمة { كلّ } يجوز أن تكون مستعملة في حقيقة معناها من الشمول وقد علم الله ما هي الأمور الحكيمة فجمعها للقضاء بها في تلك الليلة وأعظمها ابتداء نزول الكتاب الذي فيه صلاح الناس كافّة. ويجوز أن تكون { كل } مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال في كلام الله تعالى وكلام العرب، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة النمل (23) { { وأوتيت من كل شيءٍ } أي فيها تُفْرَق أمور عظيمة.

والظاهر أن هذا مستمر في كل ليلة توافق عدّ تلك الليلة من كل عام كما يؤذن به المضارع في قوله: { يُفْرق }. ويحتمل أن يكون استعمال المضارع في { يفرق } لاستحضار تلك الحالة العظيمة كقوله تعالى: { { فتثير سحاباً } [الروم: 48].

والأمر الحكيم: المشتمل على حكمة من حكمة الله تعالى أو الأمر الذي أحكمه الله تعالى وأتقنه بما ينطوي عليه من النُّظُم المدبرة الدالة على سعة العلم وعمومه. وبعض تلك الأمور الحكيمة يُنفِذُ الأمرَ به إلى الملائكة الموكلين بأنواع الشؤون، وبعضها يُنفذ الأمر به على لسان الرّسول مدة حياته الدنيوية، وبَعْضاً يلهمُ إليه من ألهمه الله أفعالاً حكيمة، والله هو العالم بتفاصيل ذلك.

وانتصب { أمراً من عندنا } على الحال من { أمر حكيم }.

وإعادة كلمة { أمراً } لتفخيم شأنه، وإلا فإن المقصود الأصلي هو قوله: { من عندنا }، فكان مقتضى الظاهر أن يقع { من عندنا } صفةً لــ{ أمر حكيم } فخولف ذلك لهذه النكتة، أي أمراً عظيماً فخماً إذا وصف بــ { حكيم }. ثم بكونه من عند الله تشريفاً له بهذه العندية، وينصرف هذا التشريف والتعظيم ابتداءً وبالتعيين إلى القرآن إذ كان بنزوله في تلك الليلة تشريفها وجعلها وقتاً لقضاء الأمور الشريفة الحكيمة. وجملة { إنا كنا مرسلين } معترضة وحرف (إنّ) فيها مثل ما وقع في { إنا كنا منذرين }.

واعلم أن مفتتح السورة يجوز أن يكون كلاماً موجهاً إلى المشركين ابتداء لفتح بصائرهم إلى شرف القرآن وما فيه من النفع للناس ليكفُّوا عن الصدّ عنه ولهذا وردت الحروف المقطعة في أوَلها المقصودُ منها التحدّي بالإعجاز، واشتملت تلك الجمل الثلاث على حرف التأكيد، ويكون إعلام الرّسول صلى الله عليه وسلم بهذه المزايا حاصلاً تبعاً إن كان لم يسبق إعلامه بذلك بما سبق من آي القرآن أو بوحي غير القرآن. ويجوز أن يكون موجهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم أصالة ويكون علم المشركين بما يحتوي عليه حاصلاً تبعاً بطريق التعريض، ويكون التوكيد منظوراً فيه إلى الغرض التعريضي.

ومفعول { مرسلين } محذوف دل عليه مادة اسم الفاعل، أي مرسلين الرسل. و{ رحمة من ربّك } مفعول له من { إنَّا كنّا مرسلين } أي كنّا مرسلين لأجل رحمتنا، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس لِيتَجنَبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب، قال تعالى: { { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين } [الأنبياء: 107]. ويجوز أن يكون { رحمة } حالاً من الضمير المنصوب في { أنزلناه }.

وإيراد لفظ الربّ في قوله: { من ربك } إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول: رحمة منا. وفائدة هذا الإظهار الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بِالمَرْبُوبينَ ثم إضافة (ربّ) إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم صرف للكلام عن مواجهة المشركين إلى مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب لأنه الذي جرى خطابهم هذا بواسطته فهو كحاضر معهم عند توجيه الخطاب إليهم فيصرف وجه الكلام تارة إليه كما في قوله: { { يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبكِ } [يوسف: 29] وهذا لقصد التنويه بشأنه بعد التنويه بشأن الكتاب الذي جاء به.

وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربّه، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة قال تعالى: { { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107]، ويعلم من كونه ربّ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرّب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول: رحمة من ربّك وربهم، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى ذلك، ثم سيصرح بأنه ربّهم في قوله { { ربّكم ورب آبائكم الأولين } [الدخان: 8] وهو مقام آخر سيأتي بيانه.

وجملة { إنه هو السميع العليم } تعليل لجملة { إنا كنّا مرسلين رحمة من ربّك } أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه عَلم عبادة المشركين للأصنام وعلم إغواء أيمة الكفر للأمم وعلم ضجيج الناس من ظلم قويّهم ضعيفَهم وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم فأرسل الرُسل لتقويمهم وإصلاحهم وعَلم أيضاً نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرّسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم، فأشير إلى علم النوع الأول بوصف { السميع } لأن السميع هو الذي يعلم الأقوال فلا يخفى عليه منها شيء. وأشير إلى علم النّوع الثاني بوصف { العليم } الشامل لجميع المعلومات. وقدم { السميع } للاهتمام بالمسموعات لأنّ أصل الكفر هو دعاء المشركين أصنامهم.

واعلم أن السميع والعليم تعليلان لجملة { إنا كنا مرسلين } بطريق الكناية الرمزية لأن علة الإرسال في الحقيقة هي إرادة الصلاح ورحمة الخلق. وأما العلم فهو الصفة التي تجري الإرادة على وفقه، فالتعليل بصفة العلم بناء على مقدمة أخرى وهي أن الله تعالى حكيم لا يحب الفساد، فإذا كان لا يحب ذلك وكان عليماً بتصرفات الخلق كان علمه وحكمته مقتضيين أن يرسل للناس رسلاً رحمةً بهم. وضمير الفصل أفاد الحصر، أي هو السميع العليم لا أصنامكم التي تدعونها. وفي هذا إيماء إلى الحاجة إلى إرسال الرّسول إليهم بإبطال عبادة الأصنام.

وفي وصف { السميع العليم } تعريض بالتهديد.