التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
٣٥
-محمد

التحرير والتنوير

الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدّر لهم التعس، وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكهم ولم يجدوا ناصراً، وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دارالخلد وبما أتبع ذلك من وصف كَيْد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين، وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم.

فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل إلى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم. ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } [محمد: 31].

وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السَّلْم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهياً عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أُحُد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا: لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عُدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر، وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر، يتربصُون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لِما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق، وغزوة ذي قَرَد، فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غيّر النبي صلى الله عليه وسلم لقبَه فلقبه الفاسق.

كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهِروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة.

والوهن: الضعف والعَجز، وهو هنا مجاز في طلب الدعة. ومعناه: النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبّت في نفسه رُويداً رُويداً حتى تتمكن منها فتصبح ملكةً وسجيّة. فالمعنى: ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره، وأوَّلُها الدعاءُ إلى السلم وهو المقصود بالنهي. والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذٍ في حال وهَن.

وعُطف { وتَدعوا } على { تهنوا } فهو معمول لِحرف النهي، والمعنى: ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجهٍ لأن الدعاء إلى السلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة. وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعُدة بالاستراحة من عُدوان العدوّ على المسلمين، فإن المشركين يومئذٍ كانوا متكالبين على المسلمين، فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمِنوا منهم، وجعلوا ذلك فرصة لينشُوا الدعوة فعرفّهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقِع البأس.

ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأُتبع بقوله: { وأنتم الأعلون }.

فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدّو في حال قدرة المسلمين وخوف العدوّ منهم، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة. قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضَرعت إلى صاحبتها. فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } في سورة الأنفال (61)، فإنه سلم طلبه العدو، فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة، ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدّة وعُدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعَة. فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخفّ ضرًّا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعُوا إليه.

وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر. وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش "فقد آثرتُ سلامة المسلمين". وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سواد العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم.

وقرأ الجمهور إلى { السَّلم } بفتح السين. وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر السين وهما لغتان. وجملة { وأنتم الأعلون } عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء، والخبر مستعمل في الوعد.

والأعلون: مبالغة في العلوّ. وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى: { إنك أنت الأعلى } [طه: 68]، أي والله جاعلكم غالبين.

و { الله معكم } عطف على الوعد. والمعية معية الرعاية والكلاءة، أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلاً. والمعنى: وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره.

وصيغ كل من جملتي { أنتم الأعلون والله معكم } جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم.

وقوله: { ولن يتركم أعمالكم } وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة { { الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم } [محمد: 1] فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها، أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها، أي أن لا يخيبها، وهو ما تقدم من قوله: { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } [محمد: 4، 5].

يقال: وتره يتره وَتْراً وتِرَة كوعد، إذا نقصه، وفي حديث «الموطأ» "من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهلَه ومالَه" . ويجوز أيضاً أن يراد منه صريحه، أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم، أي الجهاد المستفاد من قوله { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملاً.