التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ
٣٦
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
٣٧
-محمد

التحرير والتنوير

{ إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ

تعليل لمضمون قوله: { { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } [محمد: 35] الآية، وافتتاحها بــ (إنّ) مُغنٍ عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز، وليس اتصال (إنّ) بــ (ما) الزائدة الكافة بمغيّر موقعها بدون (ما) لأنّ اتصالها بها زادها معنى الحصر.

والمراد بــ { الحياة } أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافَيْن.

واللعب: الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في مرحهم.

واللهو: العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكدّ عقله.

والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ، شُبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار.

وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدّو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدّو بهم.

وحبّ الفتى طول الحياة يذلهوإن كان فيه نخوة وعِزَام

{ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا أَمْوَٰلَكُمْ * ؤإِن يَسْـھَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـٰنَكُمْ }.

الأشبه أن هذا عطف على قوله: { { فلا تَهِنُوا وتدعُو إلى السلم } [محمد: 35] تذكيراً بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حبّ إبقاء المال الذي ينفَق في الغزو، فذُكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نُهُوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم، ولذلك وقع بعده قوله: { ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا في سبيل الله إلى قوله: { عن نفسه } [محمد: 38]، على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله: { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } مشير إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سبباً في الخير الدائم.

والأجور هنا: أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى.

فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله: { فلا تهنوا } الآية.

والمقصود من الجملة قوله: { وتتقوا } وأما ذكر { تؤمنوا } فللاهتمام بأمر الإيمان. ووقوع { تؤمنوا } في حيز الشرط مع كون إيمانهم حاصلاً يعين صرف معنى التعليق بالشرط فيه إلى إرادة الدوام على الإيمان إذ لا تتقوم حقيقة التقوى إلا مع سبق الإيمان كما قال تعالى:{ فَكُّ رقبة أو إطعام إلى قوله: { { ثم كان من الذين آمنوا } [البلد: 13 ـــ 17] الآية.

والظاهر أن جملة { يؤتِكم أجوركم } إدماج، وأن المقصود من جواب الشرط هو جملة { ولا يسألكم أموالكم }. وعطف { ولا يسألكم أموالكم } لمناسبة قوله: { يؤتكم أجوركم }، أي أن الله يتفضل عليكم بالخيرات ولا يحتاج إلى أموالكم، وكانت هذه المناسبات أحسن روابط لنظم المقصود من هذه المواعظ لأن البُخل بالمال من بواعث الدعاء إلى السلم كما علمت آنفاً.

ومعنى الآية: وإن تؤمنوا وتتقوا باتباع ما نهيتهم عنه يَرض الله منكم بذلك ويكتِف به ولا يسألكم زيادة عليه من أموالكم. فيعلمُ أن ما يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الإنفاق في سبيل الله إنما هو بقدر طاقتهم. وهذه الآية في الإنفاق نظيرها قوله تعالى لجماعة من المسلمين في شأن الخروج إلى الجهاد { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقَلْتُم إلى الأرض أرضِيتُم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } في سورة براءة (38).

فقوله: ولا يسألكم أموالكم } يفيد بعمومه وسياقه معنى لا يسألكم جميع أموالكم، أي إنما يسألكم ما لا يجحِف بكم، فإضافة أموال وهو جمع إلى ضمير المخاطبين تفيد العموم، فالمنفي سؤال إنفاق جميع الأموال، فالكلام من نفي العموم لا من عموم النفي بقرينة السياق، وما يأتي بعده من قوله: { ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا في سبيل الله } الآية.

ويجوز أن يفيد أيضاً معنى: أنه لا يطالبكم بإعطاء مال لذاته فإنه غني عنكم وإنما يأمركم بإنفاق المال لصالحكم كما قال: { ومن يبخل فإنما يَبْخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء } [محمد: 38]. وهذا توطئة لقوله بعده { ها أنتم هؤلاء تُدعون لتنفقوا في سبيل الله إلى قوله: { { فإنما يبْخل عن نفسه } [محمد: 38] أي ما يكون طلب بذل المال إلا لمصلحة الأمة، وأية مصلحة أعظم من دمغها العدّو عن نفسها لئلا يفسد فيها ويستعبدها.

وأما تفسير سؤال الأموال المنفي بطلب زكاة الأموال فصرف للآية عن مهيعها فإن الزكاة مفروضة قبل نزول هذه السورة لأن الزكاة فرضت سنة اثنتين من الهجرة على الأصح.

وجملة { إنْ يسألكموها } الخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبْخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سبباً لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيَكثر الارتداد والنفاق وذلك يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان.

وهذا مراعاة لحال كثير يومئذٍ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسَّر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم، قال تعالى: { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفَضّوا } [المنافقون: 7]. وهذا يشير إليه عطف قوله: { ويُخرج أضغانكم } أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سبباً في ظهورها فكأنه أظهرها. وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد.

والإحفاء: الإكثار وبلوغ النهاية في الفعل، يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح. وعن عبد الرحمن بن زيد: الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيديك، وهو تفسير غريب. وعبر به هنا عن الجزم في الطلب وهو الإيجاب، أي فيوجب عليكم بذل المال ويجعل على منعه عقوبة.

والبخل: منع بذل المال.

والضغن: العداوة، وتقدم آنفاً عند قوله { أن لن يخرج الله أضغانهم } [محمد: 29]. والمعنى: يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية، فلطفُ الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالاً على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئاً فشيئاً لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد.

والضمير المستتر في { ويخرج } عائد إلى اسم الجلالة، وجوز أن يعود إلى البخل المأخوذ من قوله: { تبخلوا } أي من قبيل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [المائدة: 8]. وقرأ الجمهور { يخرج } بياء تحتية في أوله. وقرأه يعقوب بنون في أوله.