التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
-محمد

التحرير والتنوير

هذا مقابل قوله: { { والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } [محمد: 4] فإن المقاتلين في سبيل الله هم المؤمنون، فهذا عطف على جملة { والذين قُتلوا في سبيل الله } [محمد: 4] الآية.

والتعْس: الشقاء ويطلق على عدة معان: الهلاك، والخيبة، والانحطاط، والسقوط، وهي معان تحوم حول الشقاء، وقد كثر أن يقال: تعسا له، للعاثر البغيض، أي سقوطاً وخروراً لا نهوض منه. ويقابله قولهم للعاثر: لعاً لهَ، أي ارتفاعاً، قال الأعشى:

بذات لَوث عفرناةٍ إذا عَثَرتفالتعسُ أولى لها من أن أقول لَعَا

وفي حديث الإفك: "فعثرت أم مسطح في مِرطها فقالت: تَعِس مسطح" لأن العثار تَعْس.

ومن بدائع القرآن وقوع { فتَعْساً لهم } في جانب الكفار في مقابلة قوله للمؤمنين: { { ويُثبتْ أقدامكم } [محمد: 7].

والفعل من التعس يجيء من باب منع وباب سمع، وفي «القاموس» إذا خاطبتَ قلتَ: تَعَست كمَنع، وإذا حَكيت قلت: تَعِسَ كسمع.

وانتصب { تعساً } على المفعول المطلق بدلاً من فعله. والتقدير: فتعسوا تعسهم، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مثل تبًّا له، وويحاً له. وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم، ثم أدخلت على الفاعل لام التبيين فصار { تعساً لهم }. والمجرور متعلق بالمصدر، أو بعامله المحذوف على التحقيق وهو مختار بن مالك وإن أباه ابنُ هشام. ويجوز أن يكون { تعساً لهم } مستعملاً في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفظيع، وذلك من استعمالات هذا المركب مثل سَقياً له ورَعياً له وتَبًّا له وويحاً له وحينئذٍ يتعين في الآية فعل قول محذوف تقديره: فقال الله: تعساً لهم، أو فيقال: تعساً لهم.

ودخلت الفاء على { تعساً } وهو خبر الموصول لمعاملة الموصول معاملة الشرط.

وقوله: { وأضل أعمالهم } إشارة إلى ما تقدم في أول السورة من قوله: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [محمد: 1]، وتقدم القول على { أضلّ أعمالهم } هنالك.

والقول في قوله: { ذلك بأنهم كرهوا } الخ في معناه، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله: { { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } [محمد: 3].

والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما. والكراهية: البغض والعداوة.

و{ ما أنزل الله } هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث، قال تعالى: { كَبُر على المشركين ما تدعوهم إليه } [الشورى: 13].

والباء في { بأنهم كرهوا } للسببيّة. وإحباط الأعمال إبطالها: أي جعلها بُطْلاً، أي ضائعة لا نفع لهم منها، والمراد بأعمالهم: الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضي الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلَم أولادهم وأنعامهم، فالأعمال المُحبَطة بعض الأعمال المضللة، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجَوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى: { { الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [محمد: 1] أول السورة. والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك، كما في حديث عدي بن حاتم " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال كان يتحنث بها في الجاهلية من عتاقة ونَحوها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمتَ على ما سَلف من خير" أي ولو لم يُسلم لما كان له فيها خير.

والمعنى: أنّهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصّالحة في الآخرة وهي المقصود الأهمّ وفي الدنيا على الجملةَ. وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور.