التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١١
-الفتح

التحرير والتنوير

{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلاَْعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ }

لمَّا حَذر من النكث ورغَّب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل: غفار ومُزْينة وجُهينة وأشْجَع وأسْلَمَ والدِّيل بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى العمرة استنفر مَن حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدّوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه. وكان من أهل البيعة زيدُ بن خالد الجهني من جهينة وخرج معَ النبي صلى الله عليه وسلم من أسْلم مائةُ رجل منهم مِرْدَاس بن مالك الأسلمي والدُ عبَّاس الشاعر وعبدُ الله بن أبي أوفى وزاهرُ بن الأسود، وأهبانُ (بضم الهمزة) بنُ أوس، وسلَمةُ بن الأكْوَع الأسلمي، ومن غفار خُفَافُ (بضم الخاء المعجمة) بن أيْمَاء (بفتح الهمزة) بعدها تحتية ساكنة، ومن مزينة عَائذ بن عَمرو. وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذٍ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين، وأعَدّوا للمعذرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شغلتهم أموالهم وأهلوهم، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قَبْلِ أن يعتذروا. وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه.

فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث، فكُمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد. والمعنى: أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم.

والمخلّفون بفتح اللام هم الذين تخلّفوا. وأطلق عليهم المخلفون أي غيرهم خلفهم وراءه، أي تركهم خلفه، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقاً. يقال: خلفنا فلاناً، إذا مَرّوا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خُروج النبي صلى الله عليه وسلم فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استُنفروا ولم يعتذروا حينئذٍ.

والأموال: الإبل.

وأهلون: جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوفي لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون، فعُدّ مما ألحق بجمع المذكر السالم.

ومعنى فاستغفر لنا: اسألْ لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكرياء مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيــى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله تعالى: { بل كان الله بما تعملون خبيراً } الآية.

وجملة { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } في موضع الحال. ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة { سيقول لك المخلفون }.

والمعنى: أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة، فقد روي أنهم قالوا: يذهب إلى قوم غزَوْهُ في عُقر داره بالمدينة (يعنون غزوة الأحزاب) وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم.

{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبيراً }.

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما فيه ردّ أمرهم إلى الله ليُعلمهم أن استغفاره الله لهم لا يُكره الله على المغفرة بل الله يفعل ما يشاء إذا أراده فإن كان أراد بهم نفعاً نفعهم وإن كان أراد بهم ضَرا ضرهم فما كان من النصح لأنفسهم أن يتورطوا فيما لا يرضي الله ثم يستغفرونه. فلعله لا يغفر لهم، فالغرض من هذا تخويفهم من عقاب ذنبهم إذ تخلفوا عن نفير النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا في الاعتذار ليُكثروا من التوبة وتدارك الممكن كما دل عليه قوله تعالى بعده { { قل للمخلفين من الأعراب ستُدعون إلى قوم } [الفتح: 16] الآية.

فمعنى { إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً } هنا الإرادة التي جرت على وفق علمه تعالى من إعطائه النفع إياهم أو إصابته بضرّ وفي هذا الكلام توجيه بأن تخلّفهم سبب في حرمانهم من فضيلة شهود بيعة الرضوان وفي حرمانهم من شهود غزوة خيبر بنهيه عن حضورهم فيها.

ومعنى الملك هنا: القدرة والاستطاعة، أي لا يقدر أحد أن يغير ما أراده الله وتقدم نظير هذا التركيب في قوله تعالى: { { قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أنْ يُهلك المسيحَ ابن مريم } في سورة العقود (17).

والغالب في مثل هذا أن يكون لنفي القدرة على تحويل الشر خيراً كقوله: { { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } [المائدة: 41]. فكان الجري على ظاهر الاستعمال مقتضياً الاقتصار على نفي أن يملك أحد لهم شيئاً إذا أراد الله ضرهم دون زيادة أو أرادَ بكم نفعاً، فتوجه هذه الزيادة أنها لقصد التتميم والاستيعاب، ونظيرُه { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رَحمة } في سورة الأحزاب (17). وقد مضى قريب من هذا في قوله تعالى: { { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } في سورة الأعراف (188) فراجعه.

وقرأ الجمهور { ضَرا } بفتح الضاد، وقرأه حمزة والكسائي بضمها وهما بمعنى، وهو مصدر فيجوز أن يكون هنا مرادا به معنى المصدر، أي إن أراد أن يضركم أو ينفعكم. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق، أي إن أراد بكم ما يُضركم وما ينفعكم. ومعنى تعلق { أراد } به أنه بمعنى أراد إيصال ما يضركم أو ما ينفعكم.

وهذا الجواب لا عِدة فيه من الله بأن يغفر لهم إذ المقصود تركهم في حالة وَجَل ليستكثروا من فِعل الحسنات. وقُصدت مفاتحتهم بهذا الإبهام لإلقاء الوجل في قلوبهم أن يُغفر لهم ثم سيتبعه بقوله: { ولله ملك السماوات والأرض } [آل عمران: 189] الآية الذي هو أقرب إلى الإطماع.

و { بل } في قوله: { بل كان الله بما تعملون خبيرا } إضراب لإبطال قولهم { شغلتنا أموالُنا وأهلونا }. وبه يزداد مضمون قوله: { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } تقريراً لأنه يتضمن إبطالاً لعذرهم، ومن معنى الإبطال يحصل بيان الإجمال الذي في قوله: { كان الله بما تعملون خبيراً } إذ يفيد أنه خبير بكذبهم في الاعتذار فلذلك أبطل اعتذارهم بحرف الإبطال.

وتقديم { بما تعملون } على متعلَّقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا. وما صْدَق { ما تعملون } ما اعتقدوه وما ماهوا به من أسباب تخلفهم عن نفير الرسول وكثيراً ما سمّى القرآن الاعتقاد عملاً. وفي قوله: { وكان بما تعملون خبيراً } تهديد ووعيد.