التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
-المائدة

التحرير والتنوير

جواب عن قول عيسى، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار. والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة.

وجملة: { ينفع الصادقين صدقهم } مضاف إليها { يوم }، أي هذا يوم نفْع الصدق. وقد قرأ غير نافع من العشرة { يومُ } ـــ مضموماً ضمّة رفع ـــ لأنّه خبرُ { هذا }. وقرأه نافع ـــ مفتوحاً ـــ على أنّه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية. وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوّغ بناءه على الفتح، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر، كقول النابغة:

على حينَ عَاتبتُ المشيبَ على الصّبا

وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية، وهو التحقيق. وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أنّ مضمونها يحصل فيه، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذٍ. وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا، فنفع كليهما يظهر يومئذٍ؛ فأمّا نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه، وأمّا نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنّب غضبه على الذي يكذّبه فلا حيرة في معنى الآية.

والمراد بِـــ { الصادقين } الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه. ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قامَ عليه الدليل العقلي أو الشرعي. قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين } [التوبة: 119].

ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلاّ الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرّاً لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد. وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة. وقد ابتلي كعب بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ في الصدق ثم رأى حُسن مغبَّته في الدنيا.

ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبَر عنه حسن فيكون نفعاً محضاً وعليه جزاءان، كما في قول عيسى: { { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ } [المائدة: 116] إلى آخره، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحاً لأنّه قد حصل قبيحاً سواء أخبر عنه أم لم يخبر، وكان لقبحه مستحقّاً أثراً قبيحاً مثله. وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه.

وجملة: { لهم جنات } مبيّنة لجملة: { ينفع } باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق. وجملة { تجري من تحتها الأنهار } صفة لـــ { جنَّات } و{ خالدين } حال. وكذلك جملة { رضي الله عنهم ورضوا عنه }.

ومعنى: { رضوا عنه } المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه. وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان. فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله: { يحبّهم }. ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمَّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع.

واسم الإشارة في قوله { ذلك } لتعظيم المشار إليه، وهو الجنّات والرضوان.