التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
-المائدة

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين. وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة عن الله.

وسبب نزول هذه الآيات حدَث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها. وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داوود، والواحدي في «أسباب النّزول»، والطبري في «تفسيره» ما محصّله: أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني (حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فَدَك)، بَين أن يُرجم وبين أن يجلد ويحمَّم اختلافاً ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكِّموا رسول الله في شأن ذلك، وقالوا: إنْ حكم بالتّحميم قبِلْنا حكمَه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة: "ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحْصن" ، قالوا: يحمّم ويُجلد ويطاف به، وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصَن، فأنكروا، فأمر بالتّوراة أن تنشر (أي تفتَح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني) وجعَل بعضُهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم (أي يقرؤها للّذين يفهمونها) فقال له رسول الله: ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم، فقال رسول الله: "لأكونَن أوّل من أحيَى حُكم التّوراة" . فحكم بأنّ يُرجم الرجل والمرأةُ. وفي روايات أبي داوود أنّ قوله تعالى: { يا أيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } نزل في شأن ذلك، وكذلك روى الواحدي والطبري.

ولم يذكروا شيئاً يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله: { من الّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم }. ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذراً لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعُدّون حكمهُ ترجيحاً في اختلافهم ولكن لأنّهم يَعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها. ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحْبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عَليهم من غير أهل ملّتهم. فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم. فحكَم رسول الله حكماً جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خَطَئهم في العدول عن حكم كتابهم، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط في قوله: { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط }.

ويحتمل أن يكون ناشئاً عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويقول: إنّه رسول للأميّين خاصّة. وهؤلاء هم اليهود العيسوية، فيكون حكمه مؤيّداً لهم، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة، ويؤيّده ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أنّ يهودياً زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض: اذهبُوا بنا إلى محمّد فإنّه بُعث بالتّخفيف، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قِبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فُتْيَا نبيء من أنبيائك، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر. ويؤيّده ما رواه أبو داوود والترمذي أنّهم قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفاً عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم. ولعلّ ذلك مباح في شرعهم، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جَاء المدارس ـــ وهو بيت تعليم اليهود ـــ وحاجَّهُم في حكم الرّجم، وأجابه حَبران منهم يُدعيان بابْنَي صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم، في التّوراة؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيء صلى الله عليه وسلم قصداً لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي، وكان حكم الرجم عندهم مكتوماً لا يعلمه إلاّ خاصّة أحبارهم، ومنسياً لا يذكر بين علمائهم، فلمّا حَكم عليهم به بهتوا، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم. ففي «صحيح البخاري» أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنَا صوريا بها. وأيّامّا كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذٍ وضعف ثقتهم بعلومهم.

ومعنى { لا يحزنك الّذين يسارعون } نهيه عن أن يحصل له إحزانٌ مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر. والإحزانِ فِعل الّذين يسارعون في الكفر، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه، أي لا تجعلْهم يحْزنونك، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يُدخِل الحزن على نفسك. وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكِنائي. ونظيره قولهم: لا أعرفَنَّك تفعل كذا، أي لا تفعل حتّى أعرفَه. وقولهم: لا أُلفينّك هَهنا، ولاَ أرَيَنّك هنا.

وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في العرف؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة. وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كُلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازاً عقلياً، وليس كذلك، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي. ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في «دلائل الإعجاز» «اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنتَ نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك: أقدمَني بَلَدَك حقّ لي على فلان، فاعلاً سوى الحقّ»، وكذلك في قوله:

وصَيّرني هَوَاكِ وبِيلِحَيْني يُضرب المثَل

و ـــ يزيدك وجهه حُسناً.

أنْ تزعم أن له فاعلاً قد نُقل عنه الفعل فجُعل للهوى وللوجه» اهــ. ولقد وَهِمَ الإمام الرازي في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالاً قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين. ويدلّ لذلك قوله: «إذا أنتَ نقلت الفعل إليه» أي أسندتَه إليه.

ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة، فشبّه إظهاره المتكرّرُ بإسراع الماشي إلى الشيء، كما يقال: أسرع إليه الشيب، وقوله: إذا نهي السفيه جرى إليه. وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل، فيكون (في) قرينة المجاز، كقولهم: أسْرع الفساد في الشيء، وأسْرع الشيب في رأس فلان. فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولاناً بنشاط وسرعة. ونظيره قوله { يسارعون في الإثم } [المائدة: 62]، وقوله: { نسارع لهم في الخيرات } [المؤمنون: 56]، { { أولئك يسارعون في الخيرات } [المؤمنون: 61]. فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب. وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله: { يسارعون فيهم } [المائدة: 52].

وقوله: { من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم } إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر. والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون.

وقوله: { ومن الّذين هادوا } معطوف على قوله: { من الّذين قالوا آمنّا } والوقفُ على قوله: { ومن الّذين هادوا }.

وقوله: { سمّاعون للكذب } خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم سمّاعون للكذب. والظاهر أنّ الضّمير المقدّر عائد على الفريقين: المنافقين واليهودِ، بقرينة الحديث عن الفريقين.

وحذفُ المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتّبع فيه الاستعمال، وذلك بعد أن يذكروا متحدّثاً عنه أو بعدَ أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوففٍ المبتدأ منها، كقولهم للّذي يصيب بدون قصد «رَمْيَة من غير رَام»، وقول أبي الرقَيش:

سريع إلى ابن العمّ يلطُمُ وجههوليس إلى داعي الندى بسريع

وقول بعض شعراء الحماسة:

فتى غير محجوب الغنى عن صديقهولا مظهر الشكوى إذا النّعل زلّت

عقب قوله:

سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيّتيأياديَ لم تُمنَنْ وإن هي جَلَّت

والسمَّاع: الكثيرُ السمع، أي الاستماعِ لما يقال له. والسَّمع مستعمل في حقيقته، أي أنّهم يُصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كَذِبا، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه. وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول. والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميمُ.

وجملة { سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك } خبر ثان عن المبتدأ المحذوف. والمعنى أنّهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كَتم غرضهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم حتّى إن حكم بما يهوَون اتّبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصَوه، أي هم أتباع لقوم متستّرين هم القوم الآخرون، وهم أهل خيبر وأهل فَدَك الّذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النّبيء صلى الله عليه وسلم.

واللام في { لِقوم } للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول.

وجملة { يحرّفون الكلم } صفة ثانية { لقوم آخرين } أو حال، ولك أن تجعلها حالاً { من الّذين يسارعون في الكفر }. وتقدّم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى: { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النّساء (46)، وأنّ التّحريف الميل إلى حرف، أي جانب، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر.

وقال هنا { مِن بعد مواضعه }، وفي سورة النساء (46) { عَن مواضعه }، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة. فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها. فكان إبعاداً للكلام عن مواضعه، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض. وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابتتٍ في التّوراة إذْ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر، فكان قوله: { من بعد مواضعه } أبلغَ في تحريف الكلام، لأنّ لفظ (بعد) يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة.

والإشارة الّتي في قوله: { إن أوتيتم هذا } إلى الكلم المحرّف. والإيتاء هنا: الإفادة كقوله: { { وآتاه الله المُلك والحكمة } [البقرة: 251].

والأخذ: القبول، أي إن أُجبتم بمثل ما تهوَون فاقبلوه وإن لم تجَابوه فاحذروا قبوله. وإنّما قالوا: فاحذروا، لأنّه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم الّتي مَضَوْا عليها وفي حكّامهم الحاكمين بها.

وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه. فذلك معنى قوله: { فلَن تملك له من الله شيئاً }، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة.

وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر مّا. ومدلول مفرداته أنّك لا تملك، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون، لأنّ مادّة المِلك تدلّ على تمام القدرة، قال قَيْس بن الخطيم:

مَلكتُ بها كَفِّي فأنْهَر فَتْقَهَا

أي شددت بالطعنة كفّي، أي ملكتها بكفّي، وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم لعُيَينة بن حِصْن "أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة" . وفي حديث دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم عشيرته "فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً" .

و{ شيئاً } منصوب على المفعولية. وتنكير { شيئاً } للتقليل والتّحقير، لأنّ الاستفهام لمّا كان بمعنى النّفي كان انتفاء ملك شيء قليللٍ مقتضياً انتفاءَ ملك الشيء الكثير بطريق الأولى.

والقول في قوله: { أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم } كالقول في قوله: { ومن يرد الله فتنته }. والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدَى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان.

والخزي تقدّم عند قوله تعالى: { { إلاّ خزي } في سورة البقرة (85)، وقوله: { { ربنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته } في سورة آل عمران (192).

وأعاد { سَمَّاعون للكذب } للتّأكيد وليرتّب عليه قوله { أكّالون للسحت }.

ومعنى { أكَّالون للسحت } أخَّاذون له، لأنّ الأكل استعارة لتمام الانتفاع. والسحت ـــ بضمّ السين وسكون الحاء ـــ الشيء المسحوت، أي المستأصل. يقال: سحته إذا استأصَله وأتلفه. سمّي به الحرام لأنّه لا يُبارك فيه لصاحبه، فهو مسحوت وممحوق، أي مقدّر له ذلك، كقوله { يمحق الله الرّبا } [البقرة: 276]، قال الفرزدق:

وعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدعمن المال إلاّ مُسْحَت أو مجَنَّف

والسحت يشمل جميع المال الحرام، كالربا والرّشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب.

وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف «سحْت» ـــ بسكون الحاء ـــ وقرأه الباقون ـــ بضمّ الحاء ـــ إتْباعاً لضمّ السّين.

تفريع على ما تضمّنه قوله تعالى: { سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك } وقوله: { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه }، فإنّ ذلك دلّ على حِوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التّوراة فيه بالتّأويل أو الكتمان، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به. وظاهر الشرط يقتضي أنّ الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حدّ الزّنا، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون. وقد قال بذلك بعض المفسّرين فتكون هذه الآية من دلائل النّبوءة. ويحتمل أنّ المراد: فإن جاؤوك مرّة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.

وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم. ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكمَ بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلاّ يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف. وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى. ويؤيّده قوله بعد { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين } أي بالحقّ، وهو حكم الإسلام بالحدّ. وأمّا قوله: { وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئاً } فذلك تطمين للنّبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا. يقولون: ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد. وهذا ممّا يهتمّ به النّبي صلى الله عليه وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائِهم دهماءَهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إنْ فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة. ولعلّ في هذا التطمين إشعاراً بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال. وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبي صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم، خلافاً لما فسّر به المفسّرون هنا.

وتنكير { شيئاً } للتحقير كما هو في أمثاله، مثل { فلَن تملك له من الله شيئاً } وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر، أي شيئاً من الضرّ، فهو نائب عن المصدر. وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: { ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة (155).

والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول. واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين. وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم (وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع). وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات.

فمن العلماء من قال: حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ، وقالوا: الآية نزلت في قصّة الرجم (الّتي رواها مالك في الموطأ والبخاري ومن بعده) وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة، فقال جميعهم: لنسأل محمّداً عن ذلك. فتحاكموا إليه، فخيّره الله تعالى. واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم: كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم. وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة.

وقال الجمهور: هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً. وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي. قال مالك: الأعراض أولى. وقيل: لا يحكم بينهم في الحدود، وهذا أحد قولي الشافعي. وقيل: التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة: 49]، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، والسديّ، وعمر بن عبد العزيز، والنخَعي، وعطاء، الخراساني، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخاً لأوّلها.

وقوله: { وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل. والعدل: الحكم الموافق لشريعة الإسلام. وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام. وهذا الّذي رواه مالك. وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قَصَر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرْع الإسلام؛ فهو حُكم على اليهود بأنّهم كتموا. ويكون مَا وقع في حديث «الموطأ» والبخاري: أنّ الرجل والمرأة رُجما، إنّما هو بحكم أحبارهم. ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكُم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها. ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكَّموه. وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي. وقائل هذا يقول: هذا نُسخ بقوله تعالى: { { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة: 49]، وهو قول جماعة من التّابعين. ولا داعي إلى دعوى النسخ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان، كما سنذكره عند قوله: { { فاحكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة: 48].

والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم: أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم. ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأوّل: ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام. وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أيمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلاّ إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس.

القسم الثّاني: ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام. وهذه أيضاً يقرّون عليها، قال مالك: لا يقام حَدّ الزنا على الذميّين، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية. قال ابن خُويز منداد: ولا يُرسل الإمام إليهم رسولاً ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه.

القسم الثّالث: ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض. وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام، لأنّا لم نعاهدهم على الفسادِ، وقد قال تعالى: { { والله لا يحبّ الفساد } [البقرة: 205]، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات.

القسم الرّابع: ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض: كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوجين. فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين. فقال مالك: يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوباً، لأنّ في الاعتداء ضرباً من الظلم والفساد، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمّد، وزفر. وقال أبو حنيفة: لا يَحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معاً.